لغتنا العربية والحفاظ على هويتنا الحضارية
فيصل تايه
18-12-2022 12:09 AM
يصادف هذا اليوم الثامن عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية ، وهو اليوم الذي اعتمدته هيئة الأمم المتحدة من كل عام ، حيث لم يكن اختياره وتخصيصه للاحتفال العالمي باللغة العربية مصادفة ، بل هو اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ١٩٧٣ ، لإدخال اللغة العربية إلى لغات المنظومة الأممية المعتمدة ، إلى جانب الإنجليزية والصينية والإسبانية والفرنسية والروسية ، حيث تُعدّ اللغة العربية ركناً من أركان التنوع الثقافي للبشرية ، وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم ، كما وأن اللغة العربية أبدعت بمختلف أشكالها وأساليبها الشفهية والمكتوبة والفصحى والعامية ، ومختلف فنونها النثرية والشعرية ، وبأعمال رائعة تأسر القلوب في مجالات متنوعة كالهندسة والشعر والفلسفة ، وغيرها من العلوم والمعارف.
الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية يأتي هذا العام تحت عنوان “مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية”، ذلك لتأكيد المساهمات الكبيرة للغة العربية في إثراء التنوع الثقافي واللغوي للإنسانية ، وضمان التماسك الاجتماعي والشمول من خلال التعددية اللغوية ، فضلاً عن مساهمتها في إنتاج المعارف والتواصل الحضاري بين الثقافات والشعوب ، باعتبار ان اللغة العربية مصدراً للحوار والسلام والتعايش ، وهي إحدى اللغات الأكثر تداولا واستخداما في العالم ، فقد كانت وما زالت تلعب دورا هاما في إنتاج المعارف ونشرها في مختلف المجالات ، اضافة الى تعزيز التبادل الثقافي والعلمي بين الدول ، كما ولا يمكن اعتبار اللغة العربية مجرد أداة للتواصل فحسب ، بل هي لغة تحمل إرثا ثقافيا وفكريا ساهم في تطور الحضارات وفي إقامة حوار بين الثقافات ، تحمل في طياتها أصوات أدباء وشعراء وفلاسفة وعلماء سخروا قوتها ورونقها لخدمة الإنسانية.
وفي هذه المناسبة يأمل كل محب للغة العربية أن يكون هذا اليوم حافزاً لأبناء هذه الأمة للعناية بلغتهم والاقتراب مجدداً من تراثها العظيم ، والعمل على الإضافة إليه ، فلغتنا العربية لغة عميقة الجذور ، وضاربة في التاريخ القديم ، وهي أُم اللغات السامية قاطبة ، لذلك فما زالت أصول العربية الفصحى عصية على عتاة الباحثين ، مستشرقين وعرباً ومسلمين ، لسعة مفرداتها وغزارتها ، ولهذا تستحق لغتنا العربية أن يحتفل المبدعون وعشاق اللغة العربية بها ، هذه اللغة التي بالرغم مما تعانيه ما تزال قادرة على التعبير عن الحزن والخوف والأمل ، ولنا ونحن نحتفل بهذه المناسبة المجيدة أن نتذكر أن اللغة العربية بعد أن تمكنت من أن تكون وسيلة تواصل روحي بين السماء والأرض قد نجحت إلى حد الانبهار في أن تواصل الصعود وتقدم روائع الفكر وفرائد الإبداع وأن تكون الناطق الرسمي والشعبي ولسان الحضارة العربية التي نقلت البشرية –وليس العرب وحدهم- من حال إلى حال ، وفتحت الأبواب مشرعة في وجه التطور العلمي والفكري والأدبي، وهي وإن كانت الآن ما تزال تحظى بتقدير غير محدود من خلال كونها لغة القرآن الكريم ووسيلة التعبير عن الشعائر الدينية إلاّ أنها تواجه إهمالاً شديداً من أبنائها وحرباً ضاربة من أعدائها، وفي طليعتهم سماسرة العولمة الذين يسيرون فوق الأديان واللغات ويجترحون كل المحرمات المعنوية والمادية.
ان من يمعن النظر في أوضاع اللغة العربية وما آلت اليه سيصاب بالذهول وفقدان الثقة في قدرة هذه الأمة على النهوض من كبوتها الطويلة شبراً واحداً ، وأنه سيدرك أن الضعف السياسي والاقتصادي ماهو إلاّ التعبير المادي عن الضعف الذي حل باللغة العربية ، ومن يراجع التاريخ ويدرس أسباب سقوط الحضارة العربية سيدرك أن سقوطها كان مسبوقاً بسقوط اللغة بعد أن سيطر على الحكم في بغداد وغيرها من العواصم العربية أقوام لا تربطهم بهذه اللغة رابطة ولم يكن أحد منهم معنياً بمصيرها ، وسيكون من الصعب على العرب اليوم أن يتقدموا خطوة واحدة في ميدان التطور قبل أن تستعيد لغتهم عافيتها ومكانتها، وقبل أن يشعر الشباب من أبناء هذه الأمة وهم يبحثون عن عمل في أية مؤسسة عربية أنهم ليسوا بحاجة إلى لغة أجنبية تكون جوازاً لدخولهم إلى تلك المؤسسة.
أن التوسع الكبير الذي شهدته لغتنا العربية عراقة وتأليفاً وتصنيفاً وأدباً وشعراً ، تذكرنا ونحن نستجدي بصيصاً من ضوء مدنية الغرب أن هؤلاء " الغرب " كانوا في وقت ما في وضع أسوأ من وضعنا الراهن ، وأنهم أفادوا كثيراً من الحضارة العربية ، حيث كانت اللغة العربية هي اللغة الثانية لعلمائهم ومفكريهم إن لم تكن هي اللغة الأولى ، وأن الفرق بيننا وبينهم أنهم أخذوا جوهر الحضارة العربية ولم يكتفوا بما نصنع نحن من الأخذ بالقشور ، وأرجو أن يكون واضحاً أن هذه الإشارة لا تأتي في هذا السياق من شعور فارغ بعظمة بائدة وإنما يأتي من شعور حاد بخجل مرير تجاه أوضاعنا الراهنة وما تستدعيه من إحساس بالإحباط والحسرة ، فلم يقتصر دور العربية على إنتاج الأدب والتاريخ وكتب العلوم التي بدأت بالازدهار في بغداد والأندلس لاحقاً ، بل كان للعربية دور الوسيط الحافظ والضامن للفلسفات والعلوم الرياضية والفلكية القديمة، وهو ما أقرت الأمم المتحدة به، فالعربية ساعدت في نقل العلوم والمعارف والفلسفات اليونانية والرومانية إلى القارة الأوروبية في عصر النهضة ، وهو أمر صعب المنال على أي لغة لتتنكّب هذا العبء الثقافي العالمي الهائل، وتكون فيه صلة الوصل والناقل الأمين، من حضارة إلى حضارة، كانت العربية الحضارة التي تتوسطهما، تاريخيا وثقافيا وأدبيا.
وفي النهايه نحمد الله تعالى أن مَنّ الله علينا بنعمة الاسلام ، فلولا الإسلام والقرآن الكريم ، لظلت العربية حبيسة اللسان متنقلة بين صدور الرجال وحسب ، وكل ما حققته لغتنا العربية من انجاز فاق التصورات ، لكنه انقلب ضموراً وبواراً وفقراً في أكثر العصور فقراً وعوزاً في تاريخ الأدب العربي في نهايات حكم الدولة العثمانية ، وبروز مدارس أدبية عربية جديدة متأثرة بالرومانسية الغربية وبنزعة الإحياء العربي ، في الأدب والشعر خاصة، لتنتقل التجربة العربية من الإحياء إلى التجديد ثم إلى الحداثة .
والله دائما هو المستعان ..
بقي ان أقول :
إِنَّ الَّـذي مَلَأَ اللّـغاتِ مَحـاسِناً.. جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضّادِ"..