مواقع التواصل وثقافة القطيع
سارة طالب السهيل
14-12-2022 12:18 AM
لعبت وسائل الاعلام التقليدية دورها بتشكيل وعي الفرد وتغيير اتجاهاته الفكرية والاجتماعية لتبني افكار الحداثة وما بعدها، ومع تحول المجتمعات البشرية لعصر تكنولوجيا المعلومات وفضاء الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وجد انسان هذا العصر ضالته المنشودة في حرية التعبير عن نفسه والتحرر من كل القيود، فلغى دور الوالدين، والدين والاعراف الاجتماعية، دون ان يعي انه قد دخل في نفق مظلم من تيه سيطرة سياسة القطيع ودوامة تلبس الافكار الموجهة من جهات لا يعلمها.
انسان هذا العصر صار يرفض الثوابت كلها اعتراضا وتحديا للفطرة الانسانية، وقبل طواعية ان يكون فردا في قطيع فضائي افتراضي موجه لا يعرف من يوجهه سوى من رسائل لأشخاص مجهولين يطلقون سمومهم بأسماء مستعارة لتغير الافكار والاتجاهات الاخلاقية والدينية والاجتماعية والسياسية، حتى بتنا لا نعرف من زماننا سوى ثقافة القطيع حيث تحتشد الجماهير لابداء رأيها في مباراة رياضية، وفي الدين بأوهام تغرر بأصحاب القلوب الضعيفة وتشبع فضولهم الديني، كرسائل دعوة دينية معينة، ويطلب المرسل من جمهوره ان يرسلها الى عشرة من أصحابه مقابل ان يرى سيدنا ونبينا محمد في المنام!
ملايين الهاشتاجات المثيرة التي تملأ الفضاء الالكتروني ويجري وراءها الشباب والصغار والكبار في لهاث يومي ودائم للتواصل الوهمي مع النجوم والفنانين والسياسيين والمشهورين وتتبع أخبارهم لحظة بلحظة وتحليلها ومناقشتها، كأنها مادة خام يتم تفصيلها لصنع احداث وهمية لا تغني ولا تسمن من جوع.
فالقطيع يتناقل الاخبار و"الهاشتجات" ويسوقها بمحض ارادته، دون ان يدري انه يحقق اهداف من يقف وراء سياسة القطيع وتوظيفها باحتراف بنشر الاوهام والاشاعات وشغل الناس بها، فضمنت بذلك الحكومات العالمية سيطرتها على شعوبها، بعد ان جردتها من نعمة التفرد والتفكير المستقل الذاتي بعيدا عن اية تبعية لثقافة وسياسة القطيع.
البديع في الأمر ان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذرنا قبل 1400 عام من ان يساق الانسان فكريا كالبهائم عندما يلغي عقله وينساق لسياسة القطيع ويتبع ثقافة التقليد الاعمي في حديثه: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤوا فَلَا تَظْلِمُوا».
وللاسف فان سعي الانسان للتحرر قد جره دون وعي للانسياق وراء الاخرين ومحاكاتهم دون تفكير وتقلديهم في المأكل والملبس والمشرب ونمط الحياة، والنتيجة الطبيعية ظهور شخصيات بشرية ممسوخة من الاخرين فاقدة للهوية والارادة.
وباتت مواقع التواصل الاجتماعي والترندات والبراندات والهاشتجات ادوات رئيسية لحكومات العالم الخفية والظاهرة لتنفيذ مخططات ومؤامرات لتحريك الشعوب وتركيعها على مستوى الفرد والجماعة وتقرير مصيرهما.
بظني ان مواقع التواصل الاجتماعي ليست وسائل للتواصل بقدر ما هي وسائل لاختطاف الانسان من آدميته واختراقه في كل نفس عبر ادوات اعلامية محكمة التأثير كالتي تستخدمها الامهات في التحايل على الاطفال لقبول اخذ الحقن.
هكذا تحقن أدوات التواصل الاجتماعي الشعوب لتخضعهم وتدربهم علي التأقلم مع اي وضع سياسي محلي او عالمي، وكما ظهر وباء كورونا فعلينا اتباع مجموعة تعليمات واحدة كالجلوس بالبيت وقلة استهلاك المواد من اكل وشرب وكهرباء وغيره!
اما «التيك توك»، فهو أداة فاعلة جدا في نشر ثقافة التسطيح وتفريغ الانسان من مضمونه العقلي والفكري والوجداني، وهو فلاتر تغير ملامح الانسان من الالف الى الياء اذا رأيته بالطبيعة لا تعرفه ما لونه؟ وما جنسه وهويته؟!
فقط لأجل مواكبة العصر نجري ونلهث وراء الترند، كأنه بحر بلا شطآن على كل البشر ان يعوم فيه دون أن تكون هناك سفينة نتعلق بها عندما نغرق. ولمجرد أن يصنع البعض فيديو مثير او مشهدا فنيا او أغنية حتى يجري الكل وراءها دون تفكر أو تعقل، فهذا هو بيع الوهم عبر سياسة القطيع للافراد والمجتمعات حتى تتعود التقليد الاعمى دون فكر ورؤية، ومن ثم تقرير مصائرها، وهي بمعزل عن الواقع الحقيقي من ازمات مالية وصحية وسياسية ودينية واخلاقية.
فهل آن الاوان لان نفيق لحجم كارثة ضياع فكر الشعوب؟ ومن يقود معركة استعادة الوعي باخلاص؟ وهل سيترك من يقود حملات الوعي ضد ثقافة القطيع دون محاربته؟
انها قضية العصر نكون او لا نكون فمن يملك شجاعة الحرب الفكرية على جهالة الواقع الافتراضي فليتقدم صفوف الشرفاء والمناضلين.
(الراي)