"فرحة" .. فيلم أردني تحية لفلسطين
د. موسى برهومة
12-12-2022 03:46 PM
من كوّة صغيرة في غرفة طينيّة، يُطلّ فيلم "فرحة" لنادين سلّام على العالم. إنه يُعيد تقديم فصل جديد من تاريخ الألم والظلم والعذاب الذي حاق بالشعب الفلسطينيّ، بسبب وحشيّة العصابات الصهيونيّة المدعومة بغطاء لوجستيّ بريطانيّ، بشع ومُهين ولا أخلاقيّ.
من تلك الكوّة في ذلك المخزن المطلّ على قرية فلسطينيّة، عشية نكبة 1948، تروي المخرجة الأردنيّة واحدة من أكثر محطات المأساة الفلسطينيّة، وتخاطب وعياً عالمياً جديداً جسّدته الدموع والتفاعل الإنسانيّ في مختلف المهرجانات التي عُرض فيها الفيلم الذي يُعدّ بمثابة رسالة بليغة إلى الضمير العالميّ: ها هي فلسطين ما زالت تئنّ، وها هو شعبها ما انفكّ يتلظى في أتون المحرقة التي صنعتها يد الإثم والشرّ والإجرام.
الفيلم، الذي يُعرض على "نتفليكس" جسّدته بمهارة فذّة الممثلة الشابة البارعة كرم طاهر، بمشاركة تالا جموح، وأشرف برهوم، وعلي سليمان، وتالا جموه، وسميرة الأسير، ومجد عيد، وفراس طيبة، وهو من تأليف دارين سلّام بالاشتراك مع منتجته ديما عزار.
تستحقّ مخرجة الفيلم التقدير العالي لشجاعتها الفكريّة في اختيار موضوع كهذا من زاوية سياسيّة وجدانيّة غير غارقة في التنظير والتراجيديا المستهلَكَة، لكنها مفعمة بالشجن الإنسانيّ المعذِّب. أما الشجاعة الثانية ففنيّة: كيف تأتّى لمخرجة شابّة كلُّ هذا العزم، كي تحشر العالم في غرفة مخزن ضيّقة ومعتمة. وكيف قرّرت أن تهزم مصاعب تقنيّة أعجزت مخرجين كباراً، وكيف أدارت كاميرتها وممثلتها وضوءَ بصيرتها، وكيف تحكّمت بالخوف حتى تحكّم بنا. إنها مغامرة الفنّ المجنّح.
في تلك الغرفة/ المخزن، التي خبّأ فيها والد الفتاة "فرحة"، على أمل العودة بعد انجلاء الحرب، تتكثّف كلُّ حوادث الفيلم، ومن شقّ في الباب الخشبيّ المتصدّع تشهد الفتاة ذات الأربعة عشر عاماً مجزرة الاحتلالين الصهيونيّ والبريطانيّ، من خلال إعدام عائلة فلسطينيّة مسالمة (الأب والأم التي أنجبت للتوّ، وطلفتان صغيرتان يخرق عويلهما سقف السماء)، بينما يُترك الطفل الرضيع وحيداً في عراء الكون الفظيع. لقد رحل الجميع وخلّفوا الطفل يبكي ويبكي حتى قضى نحبه.
كلُّ هذه المشاعر التي تخلع القلب تتنامى بفداحة أمام مرأى "فرحة" الشاهدة على المذبحة، والناجية من رصاص ما زال يدوّي في أسماع العالم، والمذكِّرة بمأساة الشعب الفلسطينيّ التي عزمت دارين أن تواصل سرد محرقته بجسارة ومهارة واقتدار، كي يأتي مَن بعدها، ويُكمل مسيرة تعرية الاحتلال الغاصب وتنكيس هُرائه، ويؤكّد أنّ فلسطين، من بحرها إلى نهرها، بخير، ما دام أنّ هناك قلماً يكتب، وحنجرةً تهتف، وكاميرا تنبض، وحقّاً لا يزول، ولو زالت الدنيا.