من ما زال يراهن من مفاوضي منظمة التحرير الفلسطينية على الولايات المتحدة لكي "تهديه" دويلة فلسطينية "بالاتفاق" مع دولة الاحتلال الاسرائيلي قبل شهر اغسطس / آب المقبل، فالأحرى به أن يدقق في ما قالته وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في العشرين من الشهر الجاري: "أنا أعلم أن المستقبل ينطوي على امكانية إحراز تقدم، إن لم يكن خلال حياتنا فبالتأكيد خلال حياة أطفالنا ... وأنا لا أستطيع أن أقف هنا الليلة لأقول لكم إنني اكتشفت صيغة سحرية ما سوف تخترق الطريق المسدود الراهن".
أي أن كلينتون وإدارتها ورئيسها باراك أوباما بعد مضي اقل من عامين على دفق وعودهم المعسولة ل"شركاء السلام" العرب يعترفون اليوم بأنهم عاجزين عن تحقيق تلك الوعود بحجة أنهم ليسوا "سحرة" وبالتالي لا يملكون عصا سحرية لتحقيقها ويعلنون بأنهم غير ملزمين باي "موعد" للوفاء بها.
لكنهم في الوقت نفسه يؤكدون كل يوم بأنهم يملكون كل العصي اللازمة لاكراه مفاوض منظمة التحرير على استمرار التفاوض عليها في "عملية سلام" مفتوحة لا نهاية لها يتوارثها الأطفال عن الآباء وربما الأجداد كوعد أميركي بالدولة الفلسطينية الموعودة.
وبغض النظر عن مضمون "الاتفاق" الذي حددت إدارة أوباما مدة عام للتوصل إليه عندما أطلق أوباما استئناف المفاوضات من واشنطن أوائل الشهر الماضي، فإن الرئيس الأميركي ووزيرة خارجيته ومبعوثه الرئاسي جوج ميتشل حددوا موعدا مدته سنة للتوصل إلى هذا الاتفاق، لكن كلينتون الآن تعلن صراحة ودون لبس أن المواعيد الأميركية ليست مقدسة وأن إدارتها لا تملك "صيغة سحرية" للوفاء بها.
وهذه رسالة واضحة إلى جامعة الدول العربية بأن مهلة الشهر التي منحتها لإدارة أوباما كي تقوم بمساعيها الحميدة لدى دولة الاحتلال الاسرائيلي لكي تجمد مؤقتا توسعها الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة كاستحقاق مسبق لاستئناف التفاوض سوف تنقضي بالتأكيد في الثامن من تشرين الثاني / نوفمبر بالفشل الذريع لإدارة أوباما والجامعة العربية على حد سواء.
وكان أوباما قد أكد قبل ذلك بنحو عام بأنه "يجب على الاسرائيليين أن يقروا بأنه تماما مثلما لا يمكن انكار حق اسرائيل في الوجود، فإنه لا يمكن انكار حق فلسطين أيضا. والولايات المتحدة لا تقبل استمرار شرعية المستوطنات الاسرائيلية. فهذا البناء ينتهك الاتفاقيات السابقة وينسف جهود تحقيق السلام. لقد حان الوقت لكي تتوقف هذه المستوطنات". وفي خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعرب أوباما عن أمله في أن تحتل دولة "فلسطين" مقعدها في الهيئة الأممية العام المقبل.
لكن أوباما بالرغم من هذه التأكيدات والآمال وأمثالهما قد أكد ايضا خلال عامين تقريبا من ولايته بأنه فشل في "اقناع" دولة الاحتلال بها، فتراجع عنها، لتؤكد وزيرة خارجيته اليوم بأن إدارته لا تملك "صيغة سحرية" لتحويلها إلى واقع بينما تملك كل الصيغ لحل كل مشكلة في العالم مهما كبرت أو صغرت، سلما أو حربا، حد اللجوء إلى الحرب العدوانية السافرة والاحتلال المباشر لتدمير دول وتغيير الأنظمة الحاكمة فيها، كما حدث ويحدث في العراق وأفغانستان، إلآ في فلسطين، حيث وقفت الادارات الأميركية السابقة وحيث تقف الادارة الحالية "عاجزة" عن الفعل.
ويتأكد اليوم بأن "التغيير" الذي وعد أوباما به في السياسة الخارجية الأميركية كان مجرد شعار انتخابي سرعان ما تخلى عنه بعد وصوله إلى سدة البيت الأبيض، ليؤكد كذلك بأن وعوده ومواعيده للعرب لا تختلف عن وعود ومواعيد أسلافه في كونها للاستهلاك الداخلي أو الخارجي لكنها بالتأكيد ليست وعودا للتنفيذ، فالوعد بدولة "فلسطين" سوف يظل مجرد تكرار لوعود سلفيه جورج بوش وبيل كلينتون لا يمنع تحقيقه سوى عقبة واحدة فقط هي "الفيتو" الأميركي والانحياز الأميركي لدولة الاحتلال و"العجز" الأميركي الكامل حيالها، ليتحول إلى مجرد "جزرة" تلوح بها الادارات الأميركية المتعاقبة كي يستمر مفاوض منظمة التحرير في اللهاث وراءها دون توقف ودون نهاية فقط من أجل أن تستمر "عملية السلام" ومفاوضاتها كهدف في حد ذاته.
وقد كانت سياسة مبعوث أوباما الرئاسي، جورج مبتشل، أكثر صدقا تجاه "مواعيد" إدارته، فقد قال إنه أبلغ الرئيس أوباما عندما قبل القيام بهذه المهمة بأنه لن يحدد أي جدول زمني لمهمته، لأنه كما قال: "لم أرد أي فهم ضمني بأنني ملتزم لمدة أربع سنوات أو لأي فترة محددة".
وربما يفسر تصريح ميتشل القديم هذا التقارير الاعلامية الأميركية التي تكررت مؤخرا في وسائل إعلام رئيسية مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست عن "تهميش" ميتشل، وعن توجه إدارة أوباما نحو "تغيير اللاعبين" كمخرج من الطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات بين منظمة التحرير ودولةالاحتلال، ليعود اسم دنيس روس إلى التردد كمسؤول أول عن هذا الملف في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الصراع العربي الاسرائيلي.
وهذا سبب كافي لوحده لكي يعيد مفاوض منظمة التحرير النظر في استمرار رهانه على الادارة الأميركيةـ فدنيس روس هو الخبير المخضرم في اطالة أمد التفاوض كهدف مطلوب في حد ذاته لإدارة الصراع لا لحله، و"خبرته" هذه هي التي قادت إلى انهيار قمة عرفات – باراك – كلينتون عام ألفين واندلاع انتفاضة الأقصى ثم استشهاد ياسر عرفات وصولا إلى الوضع الراهن.
إن من يراجع كلمة روس في اجتماع منظمة "ايباك" الصهيونية الأميركية في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، التي قال فيها: "بصراحة، إن درجة التنسيق (الأميركي – الاسرائيلي) هذه غير مسبوقة"، يتذكر ما نقلته لورا روزين في "بوليتيكو" في 28 آذار / مارس الماضي عن مسؤول في إدارة أوباما: "يبدأ (دنيس روس) من منطلق أن المصالح الأميركية والاسرائيلية تتداخل بدرجة 100% تقريبا، وإذا انحرفنا عن ذلك عندئذ، يقول روس، فإن العرب سيرفعون مطالبهم بصورة غير معقولة، ولأننا لا يمكننا القبول بعرب لديهم مطالب، فإنه يجب علينا المسارعة إلى سد الفجوات مع الاسرائيليين، مهما كان الثمن الذي ندفعه من مصداقيتنا الأوسع".
وإذا كان لهذا التلاعب الأميركي بمصير الشعب الفلسطيني وقضية السلام الاقليمي مسوغاته الأميركية والاسرائيلية، فإن مفاوض منظمة التحرير لم يعد يملك أي مسوغات لاستمراره "شريكا" في هذا التلاعب.
فكل الدلائل والمؤشرات تؤكد أن لا دولة الاحتلال ولا الولايات المتحدة معنيتان حقا بأي سلام وعدل يجاهد عرب فلسطين من أجلهما طوال ما يزيد على قرن من الزمان، لأن الشعب الفلسطيني هو المستفيد الوحيد من العدل والسلام، بينما تثبت الأحداث والتطورات أن التحالف الاستراتيجي الأميركي – الاسرائيلي يستفيد فقط من الحرب والعدوان والتوسع والاستيطان ولا مصلحة لهذا التحالف في أي سلام يتسم بالعدل حتى في حده الأدنى كما أثبتت تجربة السنوات العشرين الماضية.
وخلاصة التجربة العربية والفلسطينية مع الوعود والمواعيد الأميركية تؤكد حتى الآن بأن الولايات المتحدة إنما تعمل فقط لتنفيذ الوعد الذي قطعه رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق اسحق شامير عندما جره الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب إلى مؤتمر مدريد عام 1991 بأنه سوف يطيل أمد المفاوضات لفترة لا تقل عن عشرين عاما، وها هي كلينتون اليوم تعد بأن يرث "أطفالنا" الوعد الأميركي بالدولة الفلسطينية الموعودة ويرثوا معه التفاوض عليها، لتطيل أمد وعد شامير إلى أجل غير مسمى بعد أن كادت العشرون عاما التي وعد شامير بها تنقضي فعلا.
nicolanasser@yahoo.com*