سياسة "تسليح القيم" وإشكالية الكيل بمكيالين
وليد شنيكات
08-12-2022 11:36 PM
بعد أن هدأت الأزمة المُثارة في مونديال قطر على خلفية مجتمع "ميم - المثليين"، لا بأس من إعادة تناول المسألة في سياق الجدالات الدائرة مع العالم الغربي سواء كانت رئيسةً أو ثانويةً، وهو الأسلوب الذي يتبناه الغرب عموماً ضمن سياسة الإقصاء والتهميش، مع التذكير دوماً أن العلاقة مع النصف الثاني من الكرة الأرضية لم تقم يوماً على الاحترام المتبادل وإشاعة قيم السلام والتعايش كما يُروَّج لها بل على استجلاب المنفعة وترسيخ التبعيّة.
من العبث الكلام عن البراغماتية وضرورات المقاربة الدبلوماسية في العلاقات مع الغرب، فكل ذلك لا يُخفي حقيقة الاستهانة والانتهازية التي يتعامل بها الغرب مع الشرق، وإذا كان لا بد من الحديث في هذه الأسطوانة المشروخة فيبقى فقط في إطار "سلوى العاجز" التي نعزّي بها أنفسنا التي لا تُقدّم ولا تؤخر، بل مزيداً من الانصياع والخضوع والخنوع.
مهما كانت التأويلات والتوصيفات لما جرى من قُبح وهمجية، فهذا لا ينفي أن ما حدث يُصنَّف في باب "الحرب الناعمة"، أو الدبلوماسية القاتلة -سمّها ما شئت- التي يستخدمها الغرب، ولعل كل المفاهيم والقيم المقدسّة عالمياً مثل الحقيقة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم، في ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. محاولة تسويغ مبادئ التسامح والحقوق الطبيعية بنسختها الغربية التي لا يأتيها الباطل تأتي في سياق مخططات مؤسسة قابلة للتطبيق على أي مجتمع.
في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 لعب مجتمع المثليين دوراً مهمّاً في عملية التصويت لصالح الرئيس بايدن المعروف بتأييده الواسع لحقوق المثليين. وأظهر استطلاعٌ لمؤسسة "جلعاد"، التي تعد أكبر منظمة للترويج الإعلامي للمثليين في العالم، دعماً أقوى بشكل ملحوظ للرئيس جو بايدن، ودعماً أضعف بكثير لترامب الذي تراجع عن حقوق مكتسبة للمثليين في الولايات المتحدة، وهو ما يعكس فضيحة المتاجرة بقضية الشواذ لغايات انتخابية وليس قناعة بما يسمّيه الحزب الديمقراطي حقوقَهم المشروعة.
ولعل ما يبعث على الشك هو تلك الجهود الدؤوبة التي تقوم بها سفارات أمريكية للترويج للمثلية عبر عرض منشورات لمجتمع "ميم". وقد أفادت صحيفة الراي الكويتية مؤخراً بإبعاد السلطات الأمنية، ثلاثة آلاف من المتحوّلين جنسياً منذ بداية العام، فيما اعتقلت 18 متهماً جديداً.
ملف سلاح القيم الغربي شائك ومعقّد، وله إدارات وأجهزة تُحرّكه وتُشرف عليه، وله موازنات بالمليارات، والأخطر من ذلك له أتباع في مؤسسات مجتمع مدنيّ تروّج له مقابل تمويلات لتحقيق أهدافه. يستوقفني المقام هُنا ما قاله المفكر الجزائري مالك ابن نبي: "الاستعمار ليس مجرّد عارض بل هو نتيجة حتمية لانحطاطنا، ولكي لا نكون مستعمرين، يجب أن نتخلّص من القابلية للاستعمار، فالتاريخ ليس ما تصنعه الصُدف، ولا مكائد الاستعمار، ولكنّه ما تصنعه الشعوب ذاتها في أوطانها".
حتى لا نبتعد كثيراً، خذ عندك قضية أحكام الإعدام التي تصدرها محاكم عربية ولا يتمّ تنفيذها في الغالب، تحت ضغوط أوروبية بوقف المساعدات، وهي واحدةٌ من أبرز قضايا الابتزاز السياسي التي تُمارس بحقّ دول الشرق، لنشر الفوضى والاضطراب في المجتمعات العربية، وهو ما يبدو جلياً في تنامي معدلات نِسب الجريمة في كثير من هذه الدول التي تعتمد بالدرجة الأولى على المساعدات الغربية.
اقرؤوا كتاب "اعترافات قاتل اقتصادي" لجون بيركنز، وستعرفون كيف يستخدم الغرب موارده المالية الضخمة في إضعاف الدول النامية عبر إجبارها على الإقتراض من صندوق النقد الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بفوائد مالية ضخمة، وبالتالي السقوط في فخّ شروط الدائن التي تتنوّع بين التصويت في الأمم المتحدة أو السيطرة على موارد معيّنة في البلد المَدين، أو قبول في تواجد عسكري به، وبالنهاية البقاء في دَين مستمر، ما يتسبَّب في تجويع الشعوب وحدوث اضطرابات في كثير من الدول النامية، وهو ما يتنافى مع كل القيم الإنسانية على وجه الأرض.
بالتعريج على "سلاح القيم" وسياسة الكيل بمكيالين في العالم الغربي، لم يكن مفاجئاً ما تقوم به واشنطن كلّما توترت العلاقات مع الصين من فتح ملف مسلمي "الإيغور" هناك، واستغلال قضيتهم -على ما فيها من مآسٍ وانتهاكات للحريات وطمس للوعي- كسلاح تشهره في وجه بكين العدو الاقتصادي الأصفر. مؤخراً هدّدت الإدارة الأمريكية القوة الشيوعية الصاعدة بإحالة ملف "الإيغور" إلى مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، ما لم تتوقف الصين عن استفزازاتها لتايون، ونجحت في ذلك، حتى إن بايدن نفسَه استعان بالرئيس شي جين بينغ للتأثير على رئيس كوريا الشمالية لوقف إطلاق الصواريخ العابرة للقارّات.
إذاً، هي حرب لا محالة، إلا أن عُدَّتها غير الرصاص وفُوّهات المدافع. "حرب ناعمة" تقوم على تسميمٍ للأفكار وقتلٍ للوعي الجمعي والإجهاز على كلّ ما هو مُشرق في مستقبل أجيالنا القادمة، عبر تصدير قيم معلَّبة وجاهزة مُفسِدة، هي السّلاح الأكثر مضاءً في حلقات الصّراع والمواجهة، بما فيه من مخطّطات ومشاريع ضخمة مدروسة.