لا تحتاج قراءة المشهد المحلي إلى كثير عناء لاستكشاف غياب التنسيق، بل ربما تلمح بعض فرح لدى اصحاب طوابق, وتحديدا من تولى المسؤولية منهم, وهم يرون الحكومة تقف في مواجهة ازمة مركبة وفي معظمها موروثة من حكومات سابقة آثرت ان تقوم بترحيل الازمات والاعباء بدل مواجهتها بصلابة ومقاربات مختلفة عن مقاربات الغرائز السياسية التي اتبعتها الحكومات السابقة, باستثناء حكومة المهندس نادر الذهبي, الذي واجه الازمة بوضوح وبمقاربة تعتمد على دعم المواطن وليس دعم السلعة, حيث قامت حكومته وقتها بتحرير اسعار المشتقات النفطية واسطوانة الغاز ومنح المواطن دعما يقارب حجم الارتفاع.
هذا استهلال واجب حتى يكون القارئ الكريم بصورة بداية مشهد تحرير اسعار المشتقات النفطية, الذي استمر صعودا ونزولا دون آلية تسعير شفافة, وقابلة للانعكاس على مجمل القطاعات الاقتصادية وتحديدا قطاع النقل, الذي عاش رغد انخفاض اسعار المشتقات دون تخفيض اسعاره وعاش لهيب ارتفاع الاسعار دون تعديل اسعاره ايضا, فكل الحكومات السابقة نامت عن ايجاد آلية تسعيرية مرنة تحقق العائد المعقول لقطاع النقل, الذي ظل غائبا عن اجندة الحكومات, حد دخول الوزير وخروجه دون تذكر اسمه, فاغلبهم لم يسخن مقعده تحته, وظلت الوزراة هامشية جدا.
جاءت ازمة الربيع العربي التي كانت بمجملها ازمة كاشفة لكل الاختلالات الوطنية ليس في الاردن وحده بل في القاطع العربي برمته, وحتى الدول التي حباها الله بثروات وفوائض مالية شهد حراكات محدودة, او طموحات مؤجلة, لكنها اي الحراكات لم تكن اقتصادية في جوهرها, بل كانت تنموية بمعنى التنمية الشامل فارتبط الخبز مع الحرية في معظم الشعارات, وكانت المقاربات سياسية في مجملها عندنا وعند غيرنا, ولمحاولة تسكين او التفاف على الطموحات الشعبية في التنمية الشاملة جرى وقف تسعيرة المحروقات الشهرية في الاردن, وهو قرار يحتاج الى قراءة عميقة في جدواه وفحواه, لكن حساسية السلطة وليس الدولة من المحروقات ساهم في دعم القرار فاحداث نيسان 1989 كانت في شرارتها الاولى من المحروقات.
بقيت اذن المحروقات واسعارها سر نووي لدى السلطة, وحامت حولها الكثير من الحكايا الساكنة بيقين في عقول الاردنيين وعلى السنتهم, وكلها حكايا يغذيها الامساك عن رواية واضحة وشفافة, باستثناء رقم أصمّ يأتي في الموازنة العامة يتراوح بين مليار واكثر عوائد للخزينة العامة من الضرائب المفروضة على المشتقات النفطية, لكن الملف بمجمله يحتاج الى مكاشفة اوضح, وتحديدا حول سعر النفط الذي تستخدمه المصفاة وهامش السعر التفضيلي وكلفة النقل والتكرير, وهل نشتري النفط مباشرة من المصادر او عبر وسيط, وباقي التفاصيل وصولا الى الحسبة الحقيقية لسعر المشتقات النفطية, وهذا اول مفاتيح الحل, وليس كلها, لكن على الاقل سيفهم الرأي العام هذا اللغز ثم يطويه.
اليوم, نحن امام صدام بين حقيقتين, وهذا يجعل الامر اكثر صعوبة, الحقيقة الاولى ان المشتقات النفطية باتت ملامسة للسعر العالمي, وتحديدا مادة الديزل او السولار, وهذا يعني اننا اغلقنا صفحة دعم السلعة التي كلفتنا طوال عقود مليارات مهدورة حسب وجهة نظري, فأنا انتمي بيقين الى دعم المواطن فقط, وفي كل السلع حتى الخبز, والحقيقة الثانية اننا امام حالة ارتفاع في سعر هذه السلعة يحتاج الى تعويض القطاعات المتضررة, ليس على قاعدة تخفيض السعر بل تعويض الضرر, لان الواجب الوطني يحتم استقرار الرؤية والقرار والبحث عن آليات مرنة لدعم القطاعات او تخفيض سعر الخدمة وفقا لاسعار السلعة عالميا ولكن بعد المكاشفة واغلاق ملف الاسرار النووية المصاحبة لتسعيرة المشتقات النفطية.
سيغضب بعض سكان الطوابق من موافقتي على سلوك الدكتور بشر الخصاونة في المكاشفة واطالبه بمكاشفة اكبر واعمق, فمرحلة بيع الوهم للمواطن لم تعد مجدية, واول العلاج الاعتراف بالالم وتشخيصه بدقة, واستعمال الدواء اللازم وليس الدواء المسكن او لغة الغرائزية السائدة وتحديدا من ذوات جلسوا على مقاعد المسؤولية بعمر الدكتور بشر الخصاونة وليس بعمره الوظيفي فقط, واوصلونا الى هذا الحال وللاسف وبدون خجل ينتقدون الحالة بل وبعضهم يعتقد انه قادر على الحل, ناهيك عن طبقة الشامتين الذين يطلعون علينا كل ساعة بابتسامة صفراء على الشاشات او بتغريدة بلهاء على مواقع التواصل الاجتماعي.
اللحظة لا تحتمل المناكفة فالاوجاع الشعبية صادقة جدا, بمثل وضوح رياء سكان الطوابق من المسؤولين السابقين, وعلى حكومة الدكتور الخصاونة وعليه شخصيا الاستمرار في المكاشفة الى آخر مدى, وانتاج مقاربات حقيقية للأزمة, دون الالتفات الى محاولات التصفية او المماحكة الخشنة من بعض سكان الطوابق, الذين يحاولون انتاج نفس المقاربات السابقة.