ما العمل لوقف العنف ضد النساء؟
جمال زقوت
05-12-2022 03:37 PM
بمناسبة حملة الـ 16 يوم لمناهضة العنف ضد النساء، كنت أنوي تخصيص مقالي الأسبوعي لهذه المناسبة، إلا أنه، وبفعل بشاعة جرائم وعنف جيش الاحتلال، لم يكن ممكناً اقتصار المقال على هذه الحملة فقط، سيما في ظل عدم إمكانية الفصل بين المهام الوطنية، وأحوالنا الداخلية السياسية منها والاجتماعية، وشروط استنهاض القدرة الكلية في هذه المواجهة الصعبة.
الكتابة عن حملة مناهضة العنف ضد المرأة، لا تستهدف فقط تسليط الضوء على مخاطر هذه الظاهرة التي تعاني منها النساء في جميع دول العالم. وكون العنف في فلسطين مركباً، المجتمعي من جهة والاحتلال من جهة أخرى، يجعل وضع المرأة الفلسطينية فريداً، بما يتطلبه ذلك من بحث جدي في مدى مسؤولية المجتمع بمؤسساته الرسمية والأهلية، بما في ذلك النسوية، عن تفاقم هذه الظاهرة، و محاولة بلورة حلول عملية لمعالجتها، على الأقل من أجل توحيد الجهود المجتمعية في مواجهة عنصرية وعنف المحتلين.
الإصرار على عدم تغيير البيئة والحاضنة القانونية التي هي بمثابة خلاصة تطور وعي وثقافة المجتمع بفئاته المختلفة إزاء قضية المرأة كإنسان، أو حالة عدم القطع مع موروث رجعي لا يزال يخفي في ثناياه التعامل مع المرأة وكأنها مواطن من الدرجة الثانية، وما يترتب على ذلك من ثقافة الإقصاء والتمييز وسلب الحقوق ومقاومة مبدأ المساواة الذي بدونه لن يكون المجتمع سوياً، بل يحمل في ثناياه أدران من الأمراض الاجتماعية الأخرى التي لا تقتصر على قضايا المرأة، بل وتمتد لمكونات المجتمع بأسرها.
دون إدراك أن العنف ضد المرأة هو عصارة العنف ضد المجتمع برمته، وليس نصفه، وأن التمييز ضدها هو انتهاك خطير يمس سوية المجتمع وأجياله القادمة من الجنسين. وهنا تكمن مسؤولية الحركة الوطنية ونظامها السياسي الذي بدلاً من التصدي لهذه الظاهرة بجرأة، فإنه يشيح بنظره عنها، ويتعامل مع جوهر قضايا المرأة بطريقة ديكورية لمجرد تحسين صورته المتآكلة.
عنف المجتمع ضد المرأة هو عنف المجتمع ضد نفسه، وهذا لا يُعالج بحملة لعدة أيام من السنة، بل برؤية شاملة ذات طابع مدني تقدمي بمركباتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية، كما يستدعي بلورة توجهاً للحكم يؤصل لهذه الرؤية، ويدمجها في أجندة وطنية شاملة لمكونات فلسفة الحكم الأوسع، حيث المجتمع بأكمله ما زال يخضع للاحتلال، ويعاني من سياسة القمع والعنف العنصري بأشكاله المختلفة، وما يستدعيه ذلك من رؤية واقعية خلّاقة تربط متطلبات ومهام مرحلة التحرر الوطني بمهام البناء الديمقراطي بأبعادها المختلفة، وليس أوضح من قضية المرأة للتدليل على هذا الربط، فلا يمكن بأي حال من الأحوال تأجيل النضال من أجل قضايا المرأة الاجتماعية منها والاقتصادية وحقوقها الطبيعية في المساواة الكاملة لحين إنجاز الاستقلال والتحرر الوطني.
بديهي أن شعباً يتغاضى ويشيح النظر عن حريه النساء فيه، والتصدي لما يتعرضن له من عنف وإقصاء، فإنه يُخرجُ من معادلة الكفاح الوطني رافعة أساسية من مكوناته. كما أن مفهوم الحرية فيه سيظل قاصراً ومشوهاً، ما لم يشمل حرية جميع مواطنيه رجالاً ونساءً، والتأصيل القانوني للمساواة بينهما، سيما لجهة إقرار قانونيّ حماية الأسرة والعقوبات.
لن ينجح أي مجتمع في وأد العنف المجتمعي سيما تجاه النساء اذا استمر بالصمت والتواطؤ على قتلهن، ودون ترسيخ الطمأنينة والشعور بالأمن الاجتماعي، ومكافحة مظاهر العنف داخل وحدة المجتمع الأساسية وهي الأسرة، وما يتطلبه ذلك من سياسات اقتصادية واجتماعية وتربوية تكافح الفقر وترسي العدالة الاجتماعية وثقافة المساواة الكاملة بين الجنسين، سيما في مناهج التعليم التي ما زالت تتسم بالذكورية، وإرساء مبدأ تكافؤ الفرص في سوق العمل الحكومي والخاص والأهلي على حد سواء.
وسط فعاليات"حملة مناهضة العنف ضد المرأة"، والتي يبدو أنها باتت روتيناً مكرراً خالياً من الابداع، بل، وربما سطحياً من حيث المضمون وطبيعة الانشطة، وفي ظل تراجع الأجندة الوطنية للنضال النسوي إلى مجرد ردات فعل على مدار أيام السنة الأخرى، تتصاعد هستيرياً عمليات القتل الوحشية التي ينفذها جيش الاحتلال ضد أبناء وبنات شعبنا، التي كان آخرها وأكثرها بشاعة إعدام الشاب عامر حنفي أمام مرأى العالم، ومجاهرة حكومة الاحتلال إشادتها بهذه الجريمة، الأمر الذي يفاقم من تبعات تصاعد هذا العنف سيما على النساء .
رغم تفاقم العنصرية، وتسارعها نحو الفاشية، تكتفي السلطة الحاكمة المنقسمة ببيانات الإدانة المكررة، وتتمترس قواها المهيمنة على المشهد على ضفتي الانقسام، غير آبهة بالانحدار نحو حالة انفصال شبه ممأسسة، وما يترتب عليها من تقاسم واحتكار للسلطة، وتغييب الرقابة والمساءلة البرلمانيتين، وإلغاء استقلالية السلطة القضائية، وتفشي ظواهر الفساد والمحسوبية، وعدم الاكتراث بحقوق المواطنين، والأخطر استمراء محاولات التماهي مع الحركات الرجعية، التي تطلق تحريضها المسموم ضد الناشطات والمؤسسات النسوية، وتداعيات ذلك كله على النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي، وتزايد مظاهر الاحتقان والعنف، حيث المرأة ضحيته الأساسية.
بينما تواصل تلك المنابر الرجعية تضليل الناس؛ بأن الدفاع عن حقوق النساء باعتبارها حقوق إنسان، بما في ذلك الحث على ترشيد سن الزواج ومنع الزواج المبكر، كي تكون المرأة مؤهلة لتنشأة أسرة متماسكة، وتصون حقوقها كزوجة، ومواطنة صالحة، إخلالاً بالآداب العامة، يستمر للأسف صمت المؤسسة الحكومية، وتردد المؤسسات المجتمعية، وإحجامها عن استخلاص العبر، وبلورة توجهات وخطط جدية لمواجهة حملات التحريض، وبما يشى وكأنها تضع مسافة عن الحقوق النسوية التي تضمنتها اتفاقية سيداو، كما تستمر المؤسسة الرسمية بمهادنة هؤلاء "الرجعيين" عندما يتصل الأمر بقضايا المرأة، وترك الناشطات يواجهن مخاطر التحريض على حياتهن دون اكتراث منها.
السلطات القمعية والديكتاتوريات الحاكمة، وعندما تختل قواعد حكمها، بسبب فشلها وفسادها واحتكارها للسلطة والثروة، تتمادى أكثر، وتلجأ دوماً للاحتماء ب "سلطة الدين" ليس لإرساء قيم التسامح والتعاضد التي دعت لها مختلف الأديان السماوية، بل لتحصين هيمنة هذه السلطات من النقد. يجري ذلك في وقت تتعرض فيه قضية شعبنا وحقوقه الوطنية لخطر جدي وملموس، لم يعد يقتصر فقط على اندفاع المشروع الصهيوني نحو الفاشية العنصرية وشهيته لحسم معركته التاريخية مع شعبنا وحقوقه ومشروعه الوطني ، بل وأيضاً بفعل تخلى الحركة الوطنية عن دورها الكفاحي الوطني، واستعدادها للمساومة على حقوق شعبنا الوطنية مع المحتل من جهه، وعلى طابعها التقدمي والحقوق المدنية للمواطنين مع القوى الرجعية المحلية من جهة ثانية. الأمر الذي يفرض على جميع الوحدويين الوطنيين والتقدميين في فلسطين وشتاتها التصدي لهذا الواقع بكل تعقيداته وتشابكاته، وبما يفضى لرؤية وطنية ديمقراطية منفتحة تعيد تعريف من نحن، وطابع الهوية الوطنية الجامعة لنا كشعب، واستراتيجيات كفاحنا الوطني والاجتماعي، وبما يُمَكِّن شعبنا من تعزيز قدرته على الصمود والبقاء، وحماية حقوقه الوطنية من مخططات التصفية، وصون حقوقه المدنية الاجتماعية منها والاقتصادية، ومختلف مكتسباته الديمقراطية التي سبق أن أنجزها عبر عقود من النضال المتواصل، وفي مقدمتها حقوق النساء والأجيال الشابة في المساواة وتكافؤ الفرص والكرامة الوطنية والإنسانية، كمكونات عصرية لممارسة الحق في تقرير المصير، ومبادئ حقوق الإنسان.