عمون - بعث الزميل الأستاذ ناصر قمش الباحث في مركز دراسات البحرين مقالا حول الزمن الجميل الذي كانت الصحافة المطبوعة فيه اداة الفعل الوطني مما حدا بالمغفور له الراحل العظيم الباني الحسين بن طلال طيب الله ثراه ان يرسل رسالة تاريخية للكاتب الاردني احمد سلامة ولصحيفة الراي هذه تفاصيلها كما رواها الزميل قمش:
سابقة لـ (الحسين) لم تتكرر ..
ناصر قمش – في زمن جميل كان بائعو الصحف يتراكضون بسرعة بين السيارات ليلبوا نداءات المشترين قبل أن تتحول الإشارة إلى اللون الأخضر، وتبدأ المكاتب والبيوت الأردنية صباحاتها برائحة القهوة والهيل والصحيفة اليومية.
ومثلهم جميعاً كان الملك الحسين – طيب الله ثراه – يجد الصحف على مكتبه، وهو القارئ اللامع الذي يعرف يعبر السطور وما بين السطور وما راءها ليلحق بكثير من المسؤوليات..
في صبيحة أحد حزيرانيات سنة 1989 ستوقفت جلالته مقالة الكاتب الكبير الأستاذ أحمد سلامة في صحيفة الرأي والتقت مع ما يجول في خاطر الملك، واستحضرت يوماً صعباً في مسيرة حياته، وواحداً من أصعب القرارات التي اضطر أن يتخذها ليسهم في انقاذ ما يمكن انقاذه من العروبة في ذلك الزمن، وصمت الحسين طويلاً على الجحود الذي طاوله من قامات صغيرة ومتهافتة، فالصالح العام لهذه الأمة كان يتقدم على كثير من صغائر الأمور.
مقالة أحمد سلامة في 5حزيران عام 89 والتي حملت عنوان حزيران بين الأفندية “وأحمد سعيد” اطلقت صوتاً عبر بالحسين أزمنة كثيرة، وأتى ليضع جانباً من الحقيقة في شهادة حية قدمها سلامة، ويدفع بشيء من العزاء بعد أشهر قليلة من جحود آخر كان على الحسين – رحمه الله – أن يغض عنه الطرف من أجل تحقيق مصحلة الأمة مرة أخرى، ولكن الدفعة المعنوية جعلت الراحل الحسين ينصف الكاتب الصريح والشجاع الذي لم تكن تستهوي طريقته المباشرة وغير الهيابة في قول الحقيقة الكثيرين..
فكتب الحسين بنفسه ولأول مرة في تاريخ الصحافة العربية رسالة للتعليق على المقالة وتبني مضمونها وتكرم المغفور له الملك الراحل العظيم الحسين رحمه الله بان وجه ل سلامة رسالة عبر التلفزيون وكافة وسائل الاعلام وتبنى راي الكاتب بالكامل واشاد بجرأته وصراحته وثقافته الواسعة وكانت هذه سابقة من جلالة المغفور له لم يسبقه اليها احد في الإعلام،وتبني الأفكار الكتابية الوطنية الملتزمة بخط الوطن والدولة وهو مادفع بكاتب بحجم صلاح عبد الصمد لان يسطر افتتاحية الجريدة بالقول “باننا اعتدنا ان ينقل الصحفي عن الحاكم ، ولكن الحسين غير المعادلة حينما اقتبس عن الصحفي”..
وأشاد فيها بما كتبه أحمد سلامة في مقالته، وأعتبر أن سلامة استطاع أن يقول ما يجول في خاطره، وقال الحسين “شعرت أنه قال ما يجول في نفسي من مشاعر وخواطر وعبر.. ولذلك لم أجد في هذه الذكرى.. وعلى الصعيد الوطني إلا أن أستعير ما كتب بالكامل.. فأوجهه وأنا في كل الأحوال منكم وإليكم إلى سائر أبناء الوطن وبناته”، ومن خلال هذه الرسالة كان الحسين يكشف بعضا من دوافع قراره بدخول الحرب في حزيران، وهي لم تكن حرب الأردن على أية حال، ولم تكن الأمة بأسرها على استعداد لخوض مغامرة كبرى باءت بهزيمة منكرة تطوع هيكل لتخفيفها بتعبير النكسة، ويصارح فيها الحسين الأردنيين بعد اثنين وعشرين عاما من النكسة بأنه “لو تردد الأردن في خوض الحرب مع أشقائه لانقسم على بعضه ودمر نفسه، لتدخل اسرائيل ضفته الغربية ثم الشرقية”، ففي الخامس من حزيران 1967، تغلبت الحاسة القومية والدينية لدى الملك الحسين على عقليته السياسية وتقديره الهادئ للأمور، وكان قراره بتسخين الوضع على جبهة الضفة الغربية بناء على ما يشبه نداء استغاثة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وذلك يظهر في خطاب التنحي للزعيم الراحل في التاسع من حزيران، الخسارة الأردنية كانت فادحة، والخيارات كانت محدودة، وهذا ما قام الحسين بتوضيحه..
كان أحمد سلامة يطلق بكل ما يحوزه من صدق وبلاغة مشهداً كانت مؤسسات صحفية كبرى تحاول اخفاءه وكبته وتغييبه، ويحذر مبكراً من الاستسلام لذلك التضليل المنهجي، ولذلك وجد فيه الحسين رجلاً يمكن الوثوق إلى رأيه وتقديره، وأتاح له الفرصة ليكون في مكان قريب منه وأن يكون لسان خير ومنطق يستطيع أن يضع موهبته وذكاءه في خدمة الأردن، ولسنوات بقي سلامة مخلصاً لهذه المهمة وذلك التكليف، وبقي على العهد لا يفارقه، على أهبة الضمير والحماس ليدافع عن الأردن وعرشه وشعبه دائماً وأبداً..
تلك الرسالة وان كانت تكريما لسلامة بالدرجة الأولى فإنها ايضا تكريم تكريما للصحافة المطبوعة التي يحاولون طمس حبرها اليوم.
.. نستغرب هنا كيف ضعفت ذاكرة (الرأي) في خمسينيتها وهي تحتفل بعيد ميلادها ،ولم تستكتب أحد نجومها ممن أوسوموها قلائد على صدرها في حروب الوطن لاأكثر من ثلاث مرات أولها رسالة الحسين، وثانيها حينما كتب رده التاريخي على محمد حسنين هيكل عندما تعرض لتاريخ الهاشميين، وكان ذلك بعنوان (حدث فكذب، ووعد فأخلف، واؤتمن فخان).. وكان ذلك حتى اليوم الرد المرجعي الذي ما زال معتمداً في تبيان دور الهاشميين في نهضة الأمة، أما الثالثة فقد كان عام 2005 حينما فجعت عمان بتفجيرات أبو مصعب الزرقاوي الثلاثة التي تركت دمعاً ودماً في عاصمة الحب، وكتب مقالاً على صدر (الرأي) بعنوان (دمنا عليكم حرام يا ابناء الحرام) وتحولت هذه العبارة إلى شعار وطني لدى الأردنيين الذين هبوا في اليوم التالي لرفض الجريمة النكراء..