قراءة في مضمون رسالة جلالة الملك
فيصل تايه
24-11-2022 11:41 PM
أبرز جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين خلال ترؤسه جانبا من جلسة مجلس الوزراء الأربعاء الخطوط العريضة للمرحلة التحديثية المقبلة ، مجددا العزم على أن التحديث بمساراته الثلاثة السياسية والاقتصادية والإدارية هو مشروع الدولة ، لما يكتسبه ذلك من أهمية قصوى ، ولما له من أثر في تشكيل صورة الأردن المستقبلية ، فالتراخي في تنفيذ مشروع التحديث أو التراجع عنه أو تأجيله ليس مقبولا ، وملف التحديث الذي حظي على متابعة واهتمام جلالته ، يسهم إلى حد كبير في رسم خارطة المستقبل والانجاز والعمل والمحاسبة التي يتطلع لها الأردنيون ، بالإضافة إلى تغيير دور مؤسسات الدولة التي لم تعد وظيفتها تنحصر في التدبير الإداري وحده ، بل امتدت إلى التنمية الاقتصادية وتشجيع الاستثمارات التي من شأنها خلق الأنشطة الاقتصادية تجسداً لبعد جوهري في المفهوم الجديد للتحديث المرجو ، وهو إنعاش الاستثمار والنهوض بالاقتصاد ، وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة.
لقد كانت توجيهات جلالة الملك بمثابة رسالة واضحة للجميع ، فالأردن أكبر من الجميع وخدمته وخدمة مواطنيه شرف ما بعده شرف ، فمن كان على قدر المسؤولية وعلى استعداد للعمل بكفاءة وإخلاص وتفان ، فعلى الرحب والسعة والا فليترك المجال لمن يستطيع ، والمنصب ليس للترضية أو للمجاملة ، بل لخدمة الأردنيين بإخلاص ، فالاردن ماض في شق الطريق بخطوات حثيثة على درب الإصلاحات السياسية والاقتصادية والادارية ، التي جعلت من الاردن استثناء فريدا على مستوى العالم العربي ، خاصة فيما يتعلق بالتنمية الشاملة ، فنحن نسير نحو الحداثة وتعزيز دور الدولة بخطوات واثقة ، ليبقى الاردن ركيزة مكنت من تكريس مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي وتحقيق منجزات ملموسة في مختلف الميادين السياسية والادارية والاقتصادية ، من أجل الوصول إلى مصاف الدول الديمقراطية والمتقدمة.
ان ما يستحوذ على تفكير جلالة الملك ما يتضمن صون حقوق المواطنين والحريات ، وترسيخ وتوطيد دولة الحق والقانون ، وذلك من خلال إجراء مراجعة عميقة لما تم انجازه بهدف خلق مناخ اكثر موائمة وملائمه ، من أجل تحقيق الأهداف المنشودة ، وضمن مفهوم جديد للسلطة، فمسار التحديث ليس إجراء ظرفيا لمرحلة عابرة ، أو مقولة للاستهلاك ، وإنما هو نهج معتمد ، مطبوع بالتفعيل المستمر، والالتزام الدائم بروحه ومنطوقه ، كما أنه ليس تصورا جزئيا، يقتصر على إدارة مرحلية ، وإنما هو مفهوم شامل وملزم لكل سلطات الدولة وأجهزتها ليكون بمستوى النضج الذي بلغه بناء الصرح الديمقراطي بصفته الضامن للخيار الديمقراطي الوطني حتى يكون المواطن شريكا في القرارات التي تؤثر في مستقبله، فذلك هو جوهر الإصلاح السياسي الذي سيقود إلى الإصلاح الاقتصادي والاداري.
اما في مجال إصلاح الإدارة ، فمن الضرورة وضع خطط عمل وطنية فاعلة للوزارات في مجال تنفيذ العمل الاداري ، وهذا يستدعي ضرورة تدشين عصر جديد من المكاشفة والعلانية، وإحداث التغيير الجذري في الإدارة ، وتنظيم الجهاز الإداري على أساس الكفاءة، وتعزيز العمل المؤسسي الحكومي بعيدا عن العشوائية والتخبط ، بهدف رفع سوية القطاع العام وتحسين مستوى أدائه ، وما يفرضه ذلك من تجديد وعقلنة أساليب الإدارة ، فالنهج القوي للإصلاح الإداري المنشود يستوجب تحديداً جديداً للأهداف المعينة على الجهاز الإداري تحقيقها ، لذلك ومن أجل إعادة النظر في مهام الإدارة على ضوء التوجه الجديد للدولة، لا بد من ضرورة تأسيس تصور شمولي التحديث الإداري بكل آلياته وقواعده، بالإضافة إلى تبسيط الإجراءات وتحسين النصوص الإدارية وتحديث التدابير وتعبئة الآليات القانونية والتواصلية للحد من البيروقراطية، ومن غلو السلطات التقديرية للإدارة .
ان دور المسؤول وواجبه في أي موقع حكومي ينطلق من واجبه في أن يتواصل مع المواطن وينصت لحاجاته ، في إطار من الانفتاح وسياسة القرب ، مع ربط المسؤولية بالمحاسبة ، التي تتم عبر آليات الضبط والمراقبة ، وتطبيق القانون ، واعادة التركيز والتشديد على المحاسبة والمساءلة والمراجعة لآلية العمل الحكومي والنهج الحكومي ، لان المنصب ليس للترضية بل للخدمة العامة ، حيث أن حديث جلالة الملك واضح وصريح، الامر الذي يتطلب من الحكومة ضرورة الإسراع في الانتهاء من وضع البرنامج التنفيذي لرؤية التحديث في أقرب وقت ممكن، على أن يُربط تقييم أداء الوزارات بمدى إنجازها لبرامجها ، وان يعمل كل وزير على بناء قدرات وزارته لتحقيق أهدافها وبرامجها ومسارها التحديثي ، ليكون تقييم أعمالهم على أساسها .
ان المتمعن لاحاديث جلالة الملك في لقاءاته المستمرة بالحكومة يوقن ان مشروع بناء مجتمع ديمقراطي وحداثي أولوية تتصدر اهتمامات جلالته ، فالعمل السياسي وتحديث المنظومة السياسية كان ولازال هدفا إستراتيجيا ضمن خطة التحديث ، لانه مفتاح حقوق الإنسان وكرامته وحرياته العامة ، إذ جعل من تثبيت أركان الممارسة الديمقراطية وإرساء قواعدها وتدعيم آلياتها ، في إطار دولة القانون، مطمحا ساميا ونبيلا يندرج في إطار منظومة إصلاحية ترتكز بالأساس على تحديث المؤسسات والهيئات السياسية ودمقرطتها وإصلاح المشهد السياسي الوطني وتأهيله بما يساير متطلبات العصر ، وفي هذا الإطار تم ايجاد تشريع عصري يتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية ، الهدف منه العقلنة والديمقراطية والتقيد في إحداثها وبرامجها وتسييرها وأنظمتها الأساسية والداخلية بقواعد ومبادئ الديمقراطية والشفافية .
ان توخي الارتقاء بالأحزاب لتصبح رافعة قوية قادرة على تعبئة جهود وطاقات مكونات المجتمع وقواه الحية، وأداة لإشعاع قيم المواطنة ، وصلة وصل قوية بين الدولة والمواطن ، يندرج في إطار الحرص على توطيد صرح الدولة الحديثة ليعد لبنة أساسية للسير قدما بالانتقال الديمقراطي إلى الأمام ، وإنجاح رهانه ، وتأهيل العمل البرلماني، وجعل الأحزاب السياسية، باعتبارها المدرسة الحقيقية للديمقراطية ، ما يمكن من تحرير الطاقات ونشر الأمل ، في أوساط الشباب خصوصاً ، وفتح الآفاق والإسهام في إنتاج نخب كفأة، وتخليق الحياة العامة، وإشاعة التربية السياسية والديمقراطية ، والمواطنة الإيجابية، وابتكار الحلول وطرح المشاريع المجتمعية الناجعة بما ضمن جو مفعم بالحرية في التفكير والتعبير والمبادرة.
وأخيراً فان جلالته يأمل دوماً ان نصل في المستقبل القريب إلى حكومات مستندة إلى أحزاب برامجية وطنية ، بحيث تكون هذه الأحزاب قادرة على تحقيق حضور فاعل في مجلس النواب ، يمكنها من تشكيل حكومة أغلبية على أساس حزبي برامجي ، ويوازيها معارضة نيابية تمثل الأقلية، وتعمل ضمن مفهوم حكومة الظل، وتنافسها بشكل بنّاء عبر طرح الرؤى والبرامج البديلة ، ويشرعون في التنافس عبر صناديق الاقتراع من أجل تداول الحكومات.
بقي أن أقول : ان المرحلة القادمة تتطلب انعاش الحياة العامة وتحسين مناخ الأعمال ، وانتهاج الحكامة الجيدة بتفعيل المبادئ والآليات التي ينص عليها الدستور ، وعلى رأسها ربط تحمل المسؤولية بالمساءلة والمحاسبة، والتصدي لكل أشكال الفساد ما يتطلب وضع مفهوم الخدمة العامة في صلب النموذج التنموي المنشود .