فبركات الاخبار في شبكات التواصل الاجتماعي
أ.د عبد الرزاق الدليمي
21-11-2022 03:37 PM
يتذكر العالم ذلك الخطاب المفبرك الذي قدَّمه وزير الخارجية الأميركي الأسبق، كولن باول، في 5 فبراير/شباط 2003، أمام مجلس الأمن الدولي ضد العراق، بما اعتبرته الولايات المتحدة "أدلة" على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وإيوائه لعناصر من تنظيم القاعدة. بعد حوالي ثمانية أعوام،من تلك المسرحية المسخة نقلت صحيفة "لونوفيل أوبسرفاتور"، في 31 ديسمبر/كانون الأول 2010، عن كولن باول اعترافه لأول مرة بأن خطابه الذي اتَّهم فيه العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل أمام الأمم المتحدة كان مُفَبْرَكًا وسيظل نقطة سوداء في ملفه. علما ان ذلك الخطاب اعتمدته الإدارة الأميركية لمحاولة تشكيل رأي عام أمريكي وعالمي يتسم بالإجماع أو الموافقة على الخطوة التي ستعقب شَيْطَنَة النظام العراقي.
ان الرأي العام ،الذي يتسم بتصورات وآليات لتشكيله باعتباره عملية اجتماعية وتواصلية، حيث تعتمد آراء الأفراد بطرق عديدة على السياق الاجتماعي المحيط بالمسائل العامة ،سيما مايتعلق بالتفاعل بين الهويات الاجتماعية للناس وتقارير وسائل الإتصال المختلفة (صحف ومجلات واذاعات وشبكات تلفزيونية اضافة الى الانترنيت) التي يمكن ان تسخر في صناعة وتمريرالأخبار المفبركة حول القضايا العامة التي تؤكد تضارب الرأي حولها بين المجموعات الاجتماعية المختلفة.
وتمثل عملية تحديد الهوية الاجتماعية والسلوك بين المجموعات البشرية ،أولوية بارزة سيما للعمليات الإدراكية والسلوكية التي قد تنجم عن التقارير الإخبارية المفبركة عن النزاعات والصراعات والحروب وغيرها من الازمات والكوارث!. ويلاحظ ان اغلب التقارير الاخبارية المحورية الجاذبة لاهتمام الرأي العام هي التي تركز على النزاع حول قضية يلمح لمستلميها بالتفكير فيها من خلال منظور المجموعة الخاصة بهم، وفي القضية ذاتها اضافة الى انها تؤدي إلى تصورات مستقطبة أو مبالغ فيها لآراء المجموعة نفسها، ثم الاهتمام بالقضية ،كذلك تؤدي التقارير الاخبارية إلى التعبير عن رأي شخصي يتفق مع هذه التصورات المبالغ فيها لمعايير المجموعة المعنية، كما يتم دمج العوامل التي تسهم في هذا النوع من الاستجابة وتثبيته في الاستنتاجات المستخلصة حول القضية ذاتها.
تزايدت مخاوف العاملين في وسائل الاتصال والسياسيين حول تأثير الأخبار المفبركة وتحديدًا التي يُرَوَّج لها على مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث تعالت الأصوات الداعية لمحاربة الأخبار المفبركة ومصادرها التي تُنشر عبر فيسبوك وغوغل خوفًا من تأثيرها على المسار الديمقراطي لبعض المجتمعات التي تضفي على نفسها هذه الصفة ،مع ملاحظة ان التأثير السلبي على الرأي العام هنا لاينحصر في دول العالم الثالث حسب بل في الدول الكبرى أيضًا.
تُظهِر استطلاعات الرأي العام انخفاضًا قويًّا في ثقة الجمهور بالمنافذ الإخبارية التقليدية، ومع ذلك، تُقدِّم شبكات التواصل الاجتماعي طرقًا جديدة لتلقي المحتوى الإخباري؛
استُخدمت كواجهة لبرمجة تطبيقات فيسبوك للتلاعب فيما إذا كانت القصة الإخبارية نُشرت عبر هذه المنصة من قبل أحد (أصدقاء فيسبوك) الحقيقيين المستجيبين أم لا.
وأظهرت اغلب نتائج استطلاعات الرأي العام أن هناك تحسنًا بمستويات الثقة في وسائل الإتصال الاجتماعي، مما يجعل الناس يقبلون على متابعة المزيد من الأخبار عبر هذا المنفذ الإتصالي الخاص في المستقبل. علاوة على ذلك، يتم تضخيم هذه التأثيرات عندما يُنظر إلى صديق الحياة الواقعي الذي يشارك القصة على شبكات التواصل الاجتماعي باعتباره قائد الرأي مع ملاحظة الآثار المترتبة على ممارسات الديمقراطية والأنشطة الإخبارية الأخرى.
وأثبت استطلاع رأي، أجراه موقع ( YouGov ) قبل فترة، أن 54% من المستخدمين يلجؤون إلى مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار، في حين أن 24% منهم فقط يستطيعون التفرقة بين الأخبار الصحيحة والمفبركة مما يزيد من خطورة تداول الأخبار المضلِّلة على شبكات التواصل الاجتماعي، سلَّطت صحيفة "الإندبندنت" الضوء على الأخبار المفبركة وتأثيرها في الأزمات، وكيف أسهمت في صبِّ الزيت على بارود متفجر بمنطقة الشرق الأوسط،وضربت مثلًا لذلك بما يجري تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي من أحداث مصطنعة لا علاقة لها بالواقع المحسوس، وأيضًا ما خلَّفته الأزمات بين بعض الدول في الخليج العربي من تراشق دعائي ونشر لأخبار غير صحيحة، في تبدو الصورة اكثر وضوح فيما يتم تناوله في شبكات التواصل الاجتماعي عن النوايا غير السليمة للنظام الحاكم في طهران واستهدافه للدول العربية ومنها المملكة السعودية.
أصبح معروفًا للمتابعين أن استعداد الإنسان المعاصر لنشر وتصديق الأخبار المفبركة ظاهرة لها جذورها وخلفياتها الثقافية (ربما) القديمة، كما لوحظ ان عديد من شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي أسهمت هي الاخرى في ترسيخها، وسلبت الناس الوقت الكافي للتَّحقُّق من الأخبار بسبب كثافة تدفقها وسرعة سريانها على الإنترنت. صحيح ان صناعة ونقل الأخبار المزيفة والمفبركة رافقت مسيرة الإنسانية للاف من السنين، بمعنى ان المبالغة والتهويل لم يولدا في عصر مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت؛ اذ عرف عن الانسان منذ تعلمه الكلام أنه أتقن حَبْك القصص والروايات وتزويقها، الا ان انتقال الخبر المزور في الماضي كان ببطء شديد، ويؤثر في مجموعة صغيرة من الناس في مناطق جغرافية صغيرة ومحدودة، أما الآن فيمكن لأي خبر أو قصة أن تنتقل بسرعة فائقة وتنتشر في أرجاء المعمورة وتُحْدِث تأثيرات وتنتج عنها تداعيات لا يستطيع أحد التنبؤ بها، حتى ان كان صانعها أو مؤلفها.
اصبحنا في عصر التواصل الاجتماعي، نعيش في بيئة إتصالية مختلفة، حيث فرصة انتشار الأخبار بجميع انواعها بكثافة أكثر وبسرعة أكبر ومن مصادر متعددة جدًّا، يرافقها وجود شهية متزايدة لدى الناس للتعاطي مع الأخبار المفبركة لاسيما في العقد الحالي، أن نشر وتصديق الأخبار المفبركة ظاهرة لها جذورها الثقافية القديمة، ولكن منصات التواصل الاجتماعي جعلت من الافراد والجماعات هدفًا أسهل، وسلبتهم الوقت الكافي للتَّحقُّق من الأخبار بسبب كثافة وسرعة الشبكات الاجتماعية؛ فقد كانت صناعة الأخبار والقصص الخيالية في الماضي تحدث بوتيرة أقل، وانتشارها كان يستغرق سنين طويلة ليصل إلى المدى الذي يؤثر في مجموعات كبيرة من البشر كي يغير أحداث التاريخ أو ينتج أخرى جديدة.
أن القصص بكل أنواعها كما هو معروف تمر عبر ما يشبه عملية "انتقاء طبيعي" طويلة، تخضع من خلالها القصة لعملية تصفية وفحص بطيئة وقاسية، فإن كانت القصة تخدم مصلحة الإنسان وبقاءه في بيئة معينة ومجتمع معين وزمن معين عاشت فأنها تعيش وتنتشر وبخلاف ذلك تكون قد ماتت أو تغيرت أو يمكن تحويلها لتكون أكثر مناسبة للظروف والزمان والمكان. وحتى إن أصر مجتمع ما على تبني روايات وقصص وهمية لا تناسبه ولا تتناسب مع زمانه ومكانه غالبًا ما يختفى ذلك المجتمع وتتلاشى معه أساطيره. وفي هذا السياق، يشير مايكل رادوتسكي (Michael Radetzky)، أحد منتجي برنامج (60 Minute ) الذي كان يقدم عبر قناة "سي بي إس"، إلى أن برنامجه يمكن له إقامة الدليل على خطأ الأخبار المفبركة ، رغم ان لها قدرة على اجتذاب (شعبية) هائلة في الثقافة، ويستهلكها ملايين الأشخاص"، ولم يُدرِج ضمن هذه الفئة الأخبار المفبركة التي "يُطلقها سياسيون ضد وسائل الإعلام على خلفية أخبار أو تعليقات لا تروقهم". وقال غاي كامبانيل (Guy Campanile)، وهو أيضًا من منتجي برنامج (60 Minutes): ما نقصده هو أخبارٌ يتم تلفيقها من لا شيء. وفقًا لمعظم المعايير، وبحكم التعريف، إنها أكاذيب متعمَّدة". ورأت صحيفة "الغارديان" البريطانية أن "سهولة الوصول إلى عائدات الإعلانات عبر الإنترنت، وزيادة الاستقطاب السياسي، وشعبية وسائل الإعلام الاجتماعية، كلها عناصر متورطة في انتشار الأخبار الزائفة"
تُظهِر حالات انتشار الأخبار المفبركة وترويجها المؤسسي ، وجود قناعات لدى اطراف عديدة لتحويلها الى صناعة اتصالية/دعائية يمكن ان تزداد تأثيراتها وتداعياتها على شبكة العلاقات بين الأفراد وحتى المؤسسات والدول، وقد ظهر ذلك واضحًا في أحداث وقضايا مختلفة خلال الاعوام الماضية، وكانت عاملًا بارزًا وأساسيًّا في صراعات وأزمات سياسية بدول كثيرة، بل وفي العلاقات الدولية أيضًا، مثل الأزمات في المنطقة ، ناهيك عن الاحداث المستمرة منها التي ماتزال تتفاعل مثل الصراع بين روسيا واوكرانيا.