تهيئة الفكر لصعود الحرية(5)
جياد آدم
11-07-2007 03:00 AM
مراجعة ونقد من تغذية راجعة :
ليس تقليلا من شأن الحديث عن المطلبي واليومي المُلح إطلاقا .. فرغيف الخبز لا يقل أهمية عن الحرية مثلما الحرية لا تقل أهمية عنه . . فلن تكون حرا إن كنت جائعا ..كما ولن تستطعم وتستمرئ رغيف الخبز إن كنت فاقدا للحرية والأمان.. لكنك إن كنت أمام الخيار الصعب ستختار الحرية على الرغيف . . وهو ما عبر عنه فارس بني عبس قديما بقوله :
لا تسقني ماء الحياة بذلة ..... بل فاسقني بالعز كاس الحنظلِوفي العادة فإن لغة التناول تتأثر بطبيعة القضية المتناولة .. فلكي تكون لغة ُما جديرة بالبحث في الحرية أو مصير الإنسان أو ...الخ من القضايا الكبرى لابد أن ترقى لمستوى القضية التي تتناول وتكون هي ذاتها حرة .. اقصد هناك مستوى من التناول تفرضه القضية المتناولة ذاتها ..لكي يفي الطرحُ القضيةَ حقها ويتناغم مع طبيعتها وجوهرها . وإلا فلا يمكن أن تتناول القضية الكبرى بنفس الطرح والأسلوب الذي تتناول به شانا يوميا أو ملحا مثلا.
مع الإدراك الجيد مسبقا أن هكذا محاولة طموحة تذهب إلى استبدال السمكة بإعطاء الشخص شبكة للصيد هي محاولة ليست باليسيرة .. أقصد محاولة حمل العقل على التفكير في الأبعد من اليومي والملح وما هو علة وسبب ذلك اليومي وبما يشبه تمرينا ذهنيا لذلك العقل يروضه على التفكير الأرقى من مجرد الحاجات الضرورية سيما إن كان عقلا استبدت به تلك الحاجات زمنا وسُلطت عليه لكي يظل محدودا في نطاقها وأسيرا لها ،هي محاولة ليست باليسيرة.
فإن أنت أردت أن تستخدم لغة الخطاب اليومي والملح لمناقشة ما ليس بيومي وإن كان ملحا مثله .. فإنك ربما لن توفق في حقن العقل بتلك الشحنة التي لا بد منها لتهيئه وتحمله على مشاركتك ما ترغب وتطمح إليه. وبنفس الوقت لن توفي ذلك الشأن حقه من الوصف والتصوير بمستواه وقيمته.
وإن أنت استخدمت ما يليق بالحالة من لغة وتناول من شأنها أن : تفلح في تجسيدها ووصفها من جهة .. وتفلح في أن تكون إكسيرا وتمرينا جيدا للعقل للخروج من إسار ما يعتقله من الشأن اليومي والمُلح من جهة أخرى .. ربما نفر ذلك العقل منك واتهمك بالجفاء معه أو تعمد قَول ما لا يُفهم . معادلة لا تخلو من صعوبة ..أليس كذلك؟
ولأن الشؤون اليومية والملحة ربما لا تحتاج لكاتب آخر يضاف للعشرات قبله .. لأنك إذا تصفحت صحفنا كلها وجدت هذا الشأن يستأثر ويستبد بحوالي 99% من الكتابات إن كان هو شأنا مطلبيا ملحا أو سياسيا ملحا أو ثقافيا ملحا ...الخ من الملحات .
بينما ذلك الجانب الذي كنتُ أصلا عزوت لغياب الاهتمام به قدرا كبيرا من أسباب تخلفنا تجده غائبا تماما تقريبا عن التناول والطرح .. وإن تُنُول من قبل الكاتب فلا يفلت بالمقابل من أن يكون غائبا عن المتابعة والاهتمام به من القارئ .. بحيث تجد القارئ في الغالب الأعم يبحث عن مقالة تتحدث عن شح المياه في الصيف مثلا أو ارتفاع فاتورة الكهرباء أو ما شابهها رغم أهمية متابعتها ..لكنه ربما لا يلحظ أخرى بجانبها تتحدث عن الطبقية أو التفاوت الاجتماعي الذي يجعل فئة تبدل ماء برك السباحة يوميا بينما فئة أخرى لا تجد ماء لتشرب .. مع أن المقالة الثانية أنجع في تشخيص وحل المعضلة من الأولى .
من هنا ربما كانت صحفنا ليست بحاجة لكاتب آخر يتناول تلك القضايا كونها مغطاة جيدا وتحظى بالاهتمام من الجميع وهي في الواقع مادتهم الرئبسية واليومية ..فكان من الطبيعي أن أتسق مع نفسي وطرحي من حيث أنني عزوت سبب تخلفنا لغياب الاهتمام بالفكر الأصيل والمنهجية وشمولية الرؤيا والحل .. وتراجُعه لصالح : إما التهويم في الفراغ أو اللهاث وراء المُلح المتكرر يوميا والغرق فيه وفي اسر دوامته .. لذا ركزت في كتاباتي على هذه الناحية محاولا في شبه عصف ذهني إثارة الأسئلة وخلق حالة من التداعي والتداعي المقابل (الحراك الذهني) حولها .
وحينما مثلا تتحدث عن التخلف العربي أو الاستبداد ونقيضته الحرية والوعي .. فأنت تتحدث في معاني مركبة ومكثفة ومزمنة، ولا بد والحالة هذه ولكي توفيها حقها في التناول أن تتناولها بلغة مكثفة كي تستطيع أن ترقى لمستوى تناولها سيما أنه تناول محكوم بمساحة مقالة في صحيفة.. وإلا فلن تستطيع..أو سيكون تناولك بدوره آنيا وفجا.
وفي مكالمة مع الأخ االكريم الأستاذ سمير الحياري أبي أسامة (الناشر) التقينا في الطرح بأنْ عزونا وعللنا قلة التفاعل والردود على مثل تلك المقالات إلى خصائص العقل العربي الذي هو في الغالب عقل جزئي .. لا لعيب بيولوجي في مكوناته وروافعه العضوية .. لكن لأنه هكذا دُرب وربي وفرض عليه أن يكون.. وتلك تركة قرون طويلة من تفريز وتجميد العقل ولفت انتباهه عن المهم ولكي يكون شغله الشاغل مفردات منزوعة من سياقها .. فلم يألف ثمرات الفكر بصفته محاولة لرسم الإطار الأعم للأشياء ومغامرة للغوص والإبحار في الذات (الداخل) والآخر (الخارج) .. وهو دائما- أي ذلك العقل- يهرب لما يستسهل من المسائل والقضايا المسطحة والآنية .. فتجد عشرات الردود مثلا على مقالة تتحدث عن الغلاء أو فاتورة الكهرباء أو شح المياه أو انقطاعها .. أو ما شابه .. ودون أن يلتفت إلى أن الحديث عن الحرية مثلا هو حديث يشمل كافة الانقطاعات وهو احتجاج عليها بالجملة في إطار نسقي شامل ، لأنه عقل قلنا قد رُوض على أن يكون جزئيا وآنيا ومباشرا يهتم بعلاج المفردات دون النظر في إصلاح السياق الذي ينتظمها جميعا ..أو النظر فيما إذا كانت هذه المشكلة أو تلك هي بسبب مشكلة أخرى جارة لها أو بعيدة عنها كل البعد لكن كل واحدة منهما علة للأخرى.
كان هذا تقريبا هو ملخص ما دار في ذلك الحوار الهاتفي .. حول سبب ضعف التفاعل مع المقالات الفكرية الجادة ..وبخصوص حاجة مطبوعاتنا لتغطية هذا الجانب المهم كجزء من تمرين العقل ..وكون الجانب الآخر مغطى جيدا حيث معظم ما يُكتب في صحفنا يغطي ما تعلق باليومي والمُلح والمطلبي.. في حين أن الإطار الأعم ولأشمل أو ما يمكن اعتباره علة كل الظواهر الجزئية هو الأقل تغطية وتناولا إلى حد اعتباره يتيما .
ومن يريد التأكد من صدقية هذا القول فليقرأ ويستعرض صحفنا اليومية كلها ..سيجد 99% من موادها هو بحث في المتعلق بتيار الحياة اليومي ..وأن غالبية الكتاب يغرفون مما يواجهون ويلمسون يوميا سواء في حياتهم الخاصة أو ما يلمسون لدى الآخرين أو في الأخبار .. وهو قلنا جانب مهم بل لعله الأهم في المدى الآني .لكن هناك ما هو أهم منه للمدى الأبعد والأشمل (الآتي).. وليس من العدل أو الجدوى إغفاله .. كونه الإطار الذي ينتظم كل المفردات وفيه حل كل المشكلات بدلا من معالجتها كمفردات متناثرة. . ومن هنا جاءت هذه السلسلة من المقالات التي هي أشبه بمحاولة للتأصيل لفكر الحرية والوعي وعقل الرؤية الشاملة .. وتمرين حي لربط اليومي بإطاره الكلي والمابعد يومي .كما فعلت قبلنا أمم أخرى وأفلحت بما فعلت ..وهو ما تطرقتُ له في المقالة الثانية (2) من هذه السلسلة. ومن هنا كما رأينا تفرض طبيعة القضية على الكاتب طريقة التناول فيبدو صعبا أو مبهما كما عبر أحد الأخوة في رد له في مدونتي * إضافة لما شرحناه بخصوص عدم تعود العقل على هذا النوع من الطرح والتناول مما يجعله يبدو صعبا..
jeaad@yahoo.com
http://blacksteed.jeeran.com/reform