بداية أرجو أن لا يفهم القارئ الكريم بأنني في موضوع الحرب الأوكرانية أساند طرفا على آخر، ومن زاوية عاطفية ومع سبق الإصرار والترصد، لكن قلمي هو الأقرب للحدث الساخن قبل اندلاعه وعن قناعة تامة، ومنذ البداية وأنا أدعو للسلام ولتقديمه على الحرب والتي هي ليست بين شعبين شقيقين مثل الروسي والأوكراني داخل العائلة السلافية الواحدة، وإنما بين نظامين سياسيين روسي وأوكراني غربي وغرب أمريكي، وروسيا الاتحادية العظمى أعرفها جيدا من الداخل، وهي وحسب اعتقادي الأكثر تمسكا بالقانون الدولي حتى في حروبها، ولم يسجل تاريخها أنها بدأت حربا يوما سواء كانت كبيرة مثل الحرب العالمية الثانية (العظمى) 19411945، أو صغيرة في جورجيا عام 2008 مثلا، أو مع (كييف) العاصمة، ومنذ اختراع السوفييت القنبلة النووية عام 1949 كقوة رادعة لم تستخدمها، وترفض استخدام القنبلة المنخفضة حتى رغم توجيه إشاعات اعلامية مبرمجة بصددها وضدها من جهة الغرب، وفي ذات الوقت لا تعرف روسيا ولا تاريخها المعاصر غير لغة النصر ولاتقبل في الهزيمة خاصة الاعلامية منها، ومن اجل ان تنتصر والسوفييت قدمت فاتورة من الشهداء قاربت الــ 28 مليون شهيدا اثناء مطاردتها للنازية الالمانية بقيادة اودولف هتلر حتى عمق برلين ورفع الراية السوفيتية فوق الرايخ الالماني (البرلمان) عام 1945، وفي جورجيا لم تقبل بفرض العدوان والظلم على شعب اوسيتيا الجنوبية- الروسي ديمغرافيا- هناك، وكررت المشهد مع نظام (كييف) المحسوب على التيار البنديري والازوفي المتطرف هذا العام 2022، وهو الذي تحالف مع حلف (الناتو) الغربي المعادي لروسيا جهارا نهارا، والحقوا الضرر بالمواطنين الروس والناطقين بالروسية اصدقاء وجيران روسيا، وشكلوا سببا في التاريخ المعاصر من اسباب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، ولو كان ساسة غرب اوكرانيا، ومثلهم الغرب الامريكي ومعسكرهم على حق وبالادلة الدامغة وتمسكوا بالحوار لوقفت إلى جانبهم مثلا، لكن هيهات فالحقيقة جاءت مختلفة وهي التي لا تريد المدرسة الغربية واتباعها سماعها؟!.
ولتفسير مصطلح (الاحتلال) الذي يراد له أن ينسحب على روسيا من قبل غرب أوكرانيا والغرب مجتمعا، أعود بكم لاتفاقيتي (لاهاي) لعام 1907 و(جنيف) لعام 1949 وسط القانون الدولي اللتين نصّتا على اعتبار الإقليم محتلا عندما يتم وضعه بالفعل تحت سلطة الجيش المعادي، وضرورة حماية المدنيين، وأسرى الحرب، وضمان الإغاثة، ووثائق السفر، بينما يرى القطب الروسي في طريقة ضمه للأقاليم الأوكرانية الخمسة (لوجانسك، ودونيتسك " الدونباس " وزاباروجا، وجزء من خيرسون بعد عملية إعادة التموضع العسكري) وإدخالها للسيادة الروسية، ليس احتلالا، ولا يوجد احتلال يأتي عبر صناديق الاقتراع وبنسب مئوية مرتفعة، وتحت رقابة دولية واسعة كما حدث مع روسيا والأقاليم سابقة الذكر هنا هذا العام، وإسرائيل في منطقتنا العربية عند احتلالها للأراضي العربية عامي 48 و67 لم تلجأ لصناديق الاقتراع مثلا، واعترفت الأمم المتحدة باحتلال عام 1948 ورفضت احتلال إسرائيل عام 1967، وقرار تقسيم فلسطين عام 1947 شكل حاجزا مانعا للتغول الإسرائيلي وسط أراضي العرب، وهو الذي رفضه العرب حينها لرفضهم تقسيم فلسطين العربية صاحبة الجذور التاريخية الكنعانية العريقة، وتحرص روسيا كما أتابع على حماية سكان شرق اوكرانيا، وهكذا كان سلوكها منذ بداية عمليتها العسكرية التحريرية الاستباقية غير الاحتلالية بتاريخ 24 شباط 2022، وتعمل حاليا على اعادة بناء مدينة (ماريبوبل) القريبة من حدودها وسط الدونباس، وتعامل اسرى الحرب الاوكران معاملة حسنة كما اتابع، وهي اي روسيا رصدت الحدث الاوكراني منذ ماقبل انقلاب (كييف) عام 2014، وشخصت علاقة الاجهزة اللوجستية الغربية داخله، وتبين لها مبكرا بأن الحرب معها والتي تم توسيع حدودها ومداها الآن اعدت مبكرا في عتمات الليل في (البنتاغون)، وبتاريخ 14 نوفمبر الجاري عقد مديرا الاستخبارات في روسيا سيرجي ناريشكين وفي امريكا ويليام بيرتز (العارف بالروسية) اجتماعا امنيا في انقرة التركية تناقلته وسائل الاعلام ومنها الجزيرة .
فما هي أهداف غرب أوكرانيا من الحرب التي فرضتها على نفسها، وماذا أرادت روسيا من عمليتها العسكرية التي حولت لحرب دائمة من قبل الغرب؟ وماذا أراد ويريد الغرب الأمريكي من إسناده العاطفي والمالي الأسود وعبر السلاح الحديث وبمليارات الدولارات وبحجم وصل إلى 20 مليار دولار وأكثر؟ يمكنني الإجابة على الأسئلة الثلاثة بموضوعية ومن دون مصلحة شخصية، ولقد لاحظت كيف بدأت (كييف) تبتعد تدريجيا عن روسيا مبكرا مع هزيمة آخر رئيس أوكراني موالي لروسيا مثل فيكتور يونوكوفيج الذي ماطل في قبول بلاده في الاتحاد الأوروبي الذي لم تعارضه روسيا وقتها، وكيف عمل الرئيس الأوكراني بيترو باراشينكا ببطء في التعامل مع اتفاقية (مينسك) لعام 2015 الضامنة لأمن وسيادة أوكرانيا أولا وعلى كافة اراضيها وحتى بفقدانها لاقليم (القرم) اولا بعد ادراتها لظهرها لروسيا بالتدريج، وجاء عهد فلاديمير زيلينسكي عام 2019 الرافض للحوار المباشر مع موسكو وعبر اتفاقية (مينسك) متهورا ومغرورا ومغررا به من قبل الغرب ومن امريكا بالذات وبتدخل مباشر من جهازها اللوجستي (سي أي ايه) المعروف، والهدف بعيد وطويل المدى يكمن في ضرورة استمرار الحرب الباردة مع روسيا، ورفع سعير سباق التسلح، والسيطرة على سوق السلاح العالمي، واستنزاف روسيا ما امكن خاصة بنيتها التحتية الاقتصادية ومنها العسكرية لاعاقة منافستها وتسابقها مع الغرب في المجال العسكري وفي مقدمته النووي، ولاحباط مشروع روسيا في الانقضاض على احادية القطب الواحد لصالح عالم متعدد الاقطاب تقوده بنفسها في شرق وجنوب العالم، ونحن نعرف بأن روسيا تعمل ومن منطلق استراتيجي بعيد المدى على التفوق نوعا في السلاح على حلف (الناتو) المعادي لها كل عشر سنوات في زمن هي لا تملك فيه حلفا عسكريا مشابها منذ انهيار حلف وارسو عام 1991 وتعتمد على جيشها، وبحريتها، وعلى عسكرة الفضاء.
ومن أجل ذلك حاولت (كييف- زيلينسكي) الاقتراب من (الناتو) وهو الخط الأحمر بالنسبة لجارتها (موسكو)، ونشرت بالتعاون مع أمريكا تحديدا أكثر من (30) مركزا بيولوجيا ضارا فوق أراضيها والهدف الديمغرافيا الروسية والسوفيتية السابقة، وعملت وقبلها منذ عام 2014 على ملاحقة الروس والاوكران الناطقين بالروسية في شرق وجنوب أوكرانيا والتسبب في مقتل وتشريد أكثر من 14 ألف إنسان لإجبار سكان المناطق الشرقية والجنوبية على الانضمام للسيادة الأوكرانية قسرا، وحفرت الخنادق من أجل ذلك التي زارها باراشينكا وزيلينسكي مرارا، وعينهما على إسناد الغرب لهما. والتحرك الروسي العسكري على شكل عملية جاءت دفاعية وبقرار رئاسي جماعي لا فردي، ولم تكن هجومية كما صورها الإعلام في غرب أوكرانيا والغرب، والحقيقة يصعب تغطيتها بغربال، وفي عدم حضور الرئيس بوتين قمة العشرين في أندونيسيا بدا وكأنه قد حضر وشارك، وهو الذي رفض كما هو ملاحظ أن يلتقي من دون برنامج مسبق بالرئيس بايدن هناك، وانتدب عنه وزير خارجيته سيرجي لافروف لأهمية اللقاء على المستوى الاقتصادي لتشكيل مجموعة العشرين لــ 90 % من إنتاج العالم، و80 % من التجارة العالمية، ولكل منهما تفسيره للحرب الأوكرانية ولمصطلح الاحتلال بطبيعة الحال.
والآن ومع دخول فصل الشتاء على أوروبا من دون مادة الغاز الروسية الهامة، والتي سبق أن قدمتها روسيا لهم عبر مشروعها (نورد ستريم 1 + 2) وكلفها 11 مليار دولار، وتعرض لعدوان يعتقد بأن بريطانيا وقفت خلفه، وبعد معاقبة روسيا للعاصمة (كييف) بعد سلوكها المتطرف الذي لا علاقة له بأخلاقيات الحرب الدائرة مثل الموافقة على عدوان ستريم، وعلى الاعتداء على جسر القرم، واغتيال الصحفية الروسية داريا غودينا، وقصف القرى وبعض المدن الروسية الحدودية، حان وقت السلام وتراجع أمريكا عن إسناد أوروبا في حربها مع روسيا بسبب التكاليف المالية الاستنزافية الكبيرة، وهو الذي يؤكده لنا دميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، وتمسك روسيا في المقابل بسلام الأمر الواقع أي من دون العودة خلف الأقاليم الخمسة التي عملت على ضمهم، والخروج الجزئي من إقليم (خيرسون) له حساباته في الاستراتيجية العسكرية وعلى أعلى المستويات. دعونا نراقب.