والتطوّرات هذه على الأبعاد السياسية والاجتماعية، وهي الأخطر.
يُجزِمُ المتابعُ أن المجتمعات الغربية، عموماً، حققت نقلات إيجابية بعد الحربين العالميتين المُدمِّرتين، وبالتحديد في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، على مستوييّ الأنسنة والدمقرطة، بعد فترات من سيطرة العقلية الرأسمالية العُنصرية وما تمخّض عنها من احتلال واستعمار وويلات للعديد من الدول، ترتقي إلى «جرائم ضد الإنسانية».
التحوّلات الإيجابية التي حدثت في الحُقَب المشار إليها عديدة، والتي كان لها تأثيرٌ داخلي وخارجي واضح بسبب أهمية الدول الغربية؛ نذكر ثلاثة منها سريعاً.
الأول ويتعلّقُ باحترام حقوق الإنسان داخل الغرب وخارجه، والذي تجسّد في ظهور العديد من المواثيق التي تُعلي من شأن حقوق الإنسان والمؤسسات النَّشِطَة الداعمة لهذا المبدأ والمُراقِبة لما يجري في الدول الغربية ذاتها وخارجها.
والحقّ يُقال، رغم وجود بعض الاستثناءات المُزعجة، أن عبارة «حقوق الإنسان» كانت، إلى وقت قريب، تُدلّل على شيء مهم بالنسبة للدول. وهذا بُعدٌ من التحولات المتعلقة ب"الأنسَنة» المشار إليه أعلاه.
أما الثاني، فيتّصل بالديمقراطية ذاتها، إذ كان واضحاً أنّ الديمقراطية، كنظام وكأداة فاعلة للحاكمية السياسية والمجتمعية في الثلاثة عقود المشار إليها، تتألقُ وتزهو وتقترب من المفهوم النظري الذي طرحه المفكرون والفلاسفة. وكان هنالك اعتزازٌ لا بأس به بالديمقراطية كفلسفة حكم، واحترام لقواعدها وأصولها.
لعهد قريب كان السّاسة يتنافسون بدرجة معقولة من الشهامة والشّرف، وعندما يخسر أحدهم يُبادر للاتصال بخصمه احتراماً لإرادة الشعب وإذعاناً للديمقراطية وتداول السلطة.
أما الثالث فيتّصل باحترام التعددية الثقافية والإعلاء من شأنها، وذلك على بُعدين: احترام التعددية بين مكونات المجتمعات الغربية ذاتها، بغض النظر عن المنابت والأصول والأعراق؛ واحترام التعددية على المستوى الإنساني، بحيث يتم النظر للثقافات الإنسانية على أنها جميعها مهمة ومتساوية. وليس أدل على ذلك من الرغبة في الانفتاح، وتشجيع مبدأ الحوار والتعرف على ما لدى الآخرين من ثقافات ومعتقدات وقِيم.
وهنالك أبعاد أخرى.
المزعجُ أن معظم المجتمعات الغربية بدأت بالانقلاب على هذه التّحولات، على ما يبدو.
ففي المجالات المذكورة أعلاه، هنالك جَزْرٌ بدأت تتضح معالمه، بعد المَدّ الذي ساد لعقود، يتمثل في الانقسامات الحادة في المجتمعات الغربية، انقسامات بين تيارات سياسية وشرائح مجتمعية تصل حد العداء والعنف، كما حصل في الهجوم على مبنى الكونغرس في 6 يناير 2021، بعد خسارة الرئيس دونالد ترمب، ورفضه الاعتراف بالخسارة وإصراره على الطّعن في النتائج وعلى تأجيج مناصريه ضد خَصمِه.
هذا تطوّرٌ لم تشهده الساحة الأميركية من قبل، وهو الآن يتفاقم، إذ تحول إلى «عقلية» وأسلوب يتبنّاه العديد من الساسة الأميركيين الذين يؤذون الديمقراطية ويشوّهونها ويدمّرونها.
كما يتمثلُ في تنامي قوة الأحزاب والشرائح المجتمعية المُتطرّفة المُتشبّثة بمواقفها الرجعية والعنصرية والرافضة للتعددية والانفتاح.
وهنالك الكثير مما يمكن قوله، لكن هذه التطورات مُزعجة ومُثيرة للقلق للجميع، لأهمية انعكاسات تلك التطورات ليس فقط على المجتمعات الغربية، بل على جميع الدول الأخرى التي تتأثر بسبب مكانة الدول الغربية وأثرها.
المطلوب أن تُراجِع تلك دول سياساتها وأنظمتها التعليمية، والمطلوب من دول العالم تذكيرها بذلك وتحذيرها من مغبة مثل هذا النكوص والغُلوّ والتّطرّف، تماماً كما كانت تُحذّرنا منه الدول الغربية قبل مدة ليست ببعيدة.
(الراي)