دائماً هناك جوانب مضيئة ومحطات مشرقة في حياتنا خاصة مع أولئك الناس الذين نعيش بقربهم ونتنعّم بالوصل معهم، وإن كان لديهم شيء من الزّلات أو العثرات، غير أننا لا نشعر بهذه النعمة الرغيدة على الوجه التام، أو نتفطن إليها إلا بعد رحيل أحد الرفقة أو عند تَقلُّب الأحوال.
هؤلاء قد يشبهوننا وفيهم شيء من الذات والنفس، وبالمقابل هناك من نختلف معهم ولا يشطاروننا الأفكار والأحلام والأمنيات، لكن ألا ينبغي أن نصون لهم العِشرة، ونربت على أكتافها حتى تبقى وتشعر دوماً بالدفء والحنان، وتستمر ملامح حياتنا نضرة وجميلة بشك والسريرة صافية.
ما يكون لنا أن نبرِّئ أنفسنا، وأننا فقط من يمتلك كامل الحق والحقيقة، وغيرنا هم أهل الشرّ والشرور والغِش والخديعة، فمن منا بلا خطأ أو خطيئة، فالخطأ في جانب ربما يكون عنوان الكمال في جوانب ثانية، ومفتاحاً للوصل والإنجاز والعطاء، وهي سمات سامية ينبغي أن نوطِّن أنفسنا على أنها وسيلة لإعادة ترتيب الحياة من حولنا، بعيداً عن الضجيج والنشاز والكلام الفارغ.
تَفترض به حُسن النيّة، وتجده ألدَّ الخِصام، وهو يترصّد لك السقطات، وصغائر الأمور قَلَّت أو كَثُرت، وقد يكيل لك الاتهامات بغير حساب ولا يترك شاردةً ولا واردةً، صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها لك، وشنَّع عليك، فقط لأنك صاحب الزّلة والخطأ الذي لا يُغتفر، هكذا يُصوِّرك ويُقدِّمك للآخرين، مع أنك أحسنُ منه إحساناً، وأوفى للحقّ قرباناً.
يُمكن أن يكون مع الخطأ الواحد ألفُ صحيحٍ، ومقابلَ سوادِ الليل نهارٌ ناصعٌ بِطُوله، لا فجورَ فيه، فقط عندما نَصدق مع أنفسنا ومع من هم حولنا، وننظر حقاً أن من نعيش معهم أهل الصّلاح حتى وإن كان من بينهم من زَلَّت به قدمه في شيء ما لا نحبه ولا يطيب معه الخاطر، فلربما مع النقص القليل يكون كاملَ الاكتمال. لولا اعوجاج القوس ما رَمَى. يقول الإمام أبو حامد الغزالي.
ما يضير هؤلاء لو نظروا إليك بعين المُحب الودود، لا الكاره البغيض، وأصغوا لك بوَلاءِ القريب العطوف -رُغم ما عندك ما يسمونها "الخطايا"- وشيءٍ من الاهتمام، الذي تتّسع معه فُسحة التعاطف وتنبلج به أجواء الوصل والصفاء، وتنطلق سنابل الألفة، فكم من أيام وشهور وسنوات مرّت من أعمارنا ونحن نُدوِّن بِنَهَمٍ المواقف السلبية ونُكْرِهُ مَنْ حولنا على أن يفعلوا ما يكرهون، ألم يحِن الوقت أن نكفَّ عن قتل أنفسنا بسلاح الأخلاق الرديئة، وتدمير ما تبقى بنا من جمال الروح الذي لا يدانيه جمال.
دعونا نترك لحُسن الظن حيّزاً ومتّسعاً يغّلفه الإحساس بالاشتياق وفيض المحبّة، حتى تظلّ الصُحبة باقية مستقيمة لا يشوبها خداع ولا مرارةُ خذلان، فهناك شريحة واسعة من الناس تبذل دائماً النفس والنفيس للمحافظة على العلاقة الصادقة والحُب المقيم.
تقول القِصّة أن امرأة مسنّة كانت تجلب الماء كل يوم من نهر القرية بإناءين مربوطين بعصا على كتفيها، أحدهما مشروخ، يتسرّب منه الماء على طول الطريق، ويصل بنصف الحمولة، وبعد سنتين من التسريب نطق الإناء وقال لسيدته: أنا خَجِلٌ من هدْر تعبكِ في نقل الماء. فابتسمت العجوز وقالت: ألا ترى الزهور التي زرعتها على طول مسارك وتزيُّن منزلي، أنت تسقيها وأنا أقطفها، فلو لم تكن مشروخاً لما كان منزلي جميلاً.
هذه دعوة إلى التغافل عن زلّات الأشخاص الذين نعيش معهم، وينبغي أن يتحوّل اختلافنا مع هؤلاء إلى محبّة ووئام، فكم من صُحبة دائمة ومودّة صادقة كان أولها جفوة وعداوة، لننسَ ما فات ونستقبل ما هو آتٍ بكلّ عطف وطيبة وإحسان، فما أصعب أن يتجرّد الإنسان من الإنسان.