الدوبامين في عصر اللايقين للفرد والمجتمع
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
12-11-2022 07:55 PM
تحدثت في المقال السابق عن برمجة الدماغ (العقل الواعي المسؤول عن اقل من 5 بالمئة و العقل اللاواعي او الباطن المسؤول عن اكثر من 95 بالمئه من تفاصيل حياتنا اليوميه). و تحدثت عن مسؤولية العقل الباطن عن عواطفنا و مهاراتنا و عقائدنا و قناعاتنا و الحاجة لاعادة برمجة العقل الباطن للحصوا على التحكم العاطفي و الحماسة و الدافعية و المتعة و السعادة و الرضا و القدرة على التكيف و التسامح و الوسطية. و اؤكد في هذا المقال ان برمجة العقل الباطن تبدأ منذ الطفولة بآلية اقرب الى التنويم المغناطيسي و ذلك لغياب العقل الواعي الذي يبدا بالتشكل في سن السابعة و يبدأ بالنضوج في عمر المراهقة اما قبل ذلك فيكون كما الاسفنجة التي تمتص كل شئ من المحيط.
اتحدث اليوم عن الدوبامين و هو الناقل العصبي المسؤول عن السعي الى المتعة و السعادة و هو المسؤول عن الدافعية و النشاط و التنبه هذا طبعا بالاضافة لعمله المهم على ليونة حركة الجهاز الحركي لكن ذلك موضوع آخر ساطرقه في مقالات لاحقه.
لنفهم عمل الدوبامين سابدأ ببعض الامثله و المثال الاسهل اجتماعيا هي فترة الخطبة و بعد الزواج. فاذا الخطيبة طلبت شئ بسيط من الخطيب في اي وقت تجد انه ينبعث فيه النشاط و الدافعية و قد يقطع 50 كيلومترا لتنفيذ طلبها اما سبب هذه الدافعية و النشاط فهو الدوبامين الذي يتم افرازه لكن لنتخيل نفس السيناريو و لكن بعد مرور سنوات على الزواج سنجد ان نفس الشخص سيتثاقل من مشوار الى البقالة البعيدة 50 مترا و سيجده حملا ثقيلا و ذلك لان الدوبامين لم يعد يفرز بشكل كاف اي ان المثير او المحفز لم يعد مثيرا للدوبامين و لو افترضنا ان نفس الشخص الذي اصبح متثاقلا من مشوار البقالة دخل في علاقة حب او خطبة جديدة ستجده يعود لقطع 50 كيلومترا دون تأفف لان المثير الجديد قادر على تحفيز افراز الدوبامين بقوة.
اما المثال الآخر فلو افترضنا ان شخصًا يعمل على مشروع سيحصل منه مكافأة سواءا مادية او ترقية او تقدير فسنجد ان دفقات الدوبامين تعطية الدافعية و النشاط و الرغبة للعمل بل قد يجد صعوبة في النوم لانه يستعجل العمل و الانجاز و سنجد انه يصحو باكرا نشيطا برغم قلة النوم و ذلك للعمل على المشروع. لكن نفس الشخص سنجده دخل في شعور من الفراغ بعد الحصول على المكافأة و قد يعود متثاقلًا متململا يصحو للعمل بصعوبة و يعمل بدون شغف خصوصا ان تم التمييز ضدة في العمل او لم يكن هنالك تحدي او مكافأة. السر هنا مرة اخرى هو الدوبامين.
ان اردنا النهوض سواءا افرادا او جماعات او دولة لا بد ان نتحول الى دولة الدوبامين بمعنى ان نبعث الامل في الجميع و نحفز الجميع خصوصا جيل الشباب ليستعيد الطاقة و النشاط و الدافعية. لكن كون ذلك هو مسؤولية المسؤولين في الدولة و كون ذلك يحتاج بالدرجة الاولى تحديد هوية تفكير ثقافية قائمة على الامل و العمل لذلك سابقي مقالي على مستوى الافراد.
لنفهم معادلة الدوبامين بشكل افضل و اهمية تحفيزها في فترة اللايقين الذي يعيشه العالم حاليا اعطي مثالًا اضافيا شخص حضر عشاء و كانت الاجواء ايجابية و تلذذ بالطعام و الاجواء. هنا ما سبب التلذذ و المتعة هي خلطة السعادة و المتعة (سيروتونين، اندورفين، اوكسيتوسين) و التي ساتحدث عنها في مقال لاحق، لكن ما يحدث ان مركز المكافأة في الدماغ يفرز الدوبامين الذي يعطي النشاط و التنبه و لكن الاهم في هذه المرحلة هي تحويل هذا الحدث بكل تفاصيلة و اجوائه الى الذاكرة و ربطها (coding) بالمتعة بالتالي ان تذكر الشخص لاحقا او رأى او حتى اشتم جزء من تلك الاجواء سيفرز الدوبامين ليعطية القوة و الدافعية و التركيز للسعي الى تلك الاجواء و ذلك الطعام.
الدوبامين هو ما يدفع مسؤول جرب السلطة الى البحث الدائم للعودة للمنصب و هو نفسه ما يدفع هواة رياضة المخاطر الى اعادتها و هو نفسه ما يدفع المجرم الى اعادة الجريمة للحصول على المكافأة و هو نفسه ما يجعلنا نصحو باكرا للذهاب الى العمل لنحقق انجازا او نحصل على راتب و هو نفسه ما يجعل المجتمع يتحرك نحو العمل ان كان هنالك مردود و هو نفسه ما يعطي السياسي القوة و الرغبة للترشح للانتخابات ليحصل على مكافأة الوضع الاجتماعي و هو نفسه ما يدفع الرجال للزواج الثاني للبحث عن المتعة التي قد يقتلها الروتين و هو نفسه المسؤول عن رغبتنا بفنجان القهوة صباحا وهو نفسه ما يدفع الناس لادمان وسائل التواصل الاجتماعي و البحث عن المتابعة او اللايكات.
كل ما سبق هي عادات قوية وقودها الدوبامين و لكنها لا تعتبر ادمان بالمعنى العلمي و لكن الدوبامين علميا هو المسؤول عن الجزء الاكبر من الادمان. فمتعاطي الادوية او المخدرات بعد المرة الاولى تدفعه دفقات الدوبامين للبحث و السعي للحصول على متعتها و ذلك ايظا ينطبق على ادمان القمار و ادمان الجنس و ادمان الزواج فالمعادلة في كلها بسيطة؛ حدث ينتج متعة و سعادة يتم تخزينه و ربط الحدث مع الشعور بالمتعة بواسطة الدوبامين ثم دفقات من الدوبامين تعطي الوقود للسعي لتكرار تلك المتعة ثم تتعود المستقبلات العصبية فيحتاج دفقة اقوى او نوع جديد من التحفيز.
الدوبامين نعمة و نقمة و من استطاع التحكم به قد يغير افراد و مجتمعات للاحسن او للاسوأ. اما نقص الدوبامين فهو المسؤول عن الخمول و التذمر و التكاسل و العصبية و فقدان الشغف.
لقد حاولت في هذا المقال تبسيط الموضوع قدر الامكان و لكن سأعود لربطة في مقال لاحق مع السيروتونين و هو المسؤول عن الثقة بالنفس و تقدير الذات و السعي الى وضع اجتماعي و وظيفي افضل و ذلك بعد الكتابة في موضوع السيروتونين في المقاله القادمة لكنني اختم هذه المقالة بالقول ان التقدير و الانجاز و السلطة و الوضع الاجتماعي قد تكون اقوى محفزات الدوبامين و حتى اقوى من المال و يبقى الامل في غدا افضل هو المحفز الاقوى من كل ما سبق.