الغني في الأردن يتذمر من قلة الأرباح، والفقير يتذمر أيضا، من قلة المال، ويستحيل أن تجالس أحدا في الأردن، إلا ويشق قميصه وجيوب أجداده، ويجعلك تخرج من عنده زاحفا مستغفرا.
صفة التذمر بسبب الوضع الاقتصادي صفة غالبة على الشخصية الاجتماعية، والكل يرسم لك وجها حزينا، واذا كنا نعرف بالطبع ان هناك اكثر من مليون فقير، وان هناك مشاكل في كل البيوت، الا انني أتحدث عن امر آخر تماما، اي تحول التذمر الى صفة اساسية في الشخصية الاجتماعية، برغم ان واقع حياة بعض المتذمرين، قد يكون احسن بكثير مما يظهرون.
للشيطان رأي ثالث هنا، إذ يقول انه يعرف اين نخفي اموالنا تحت البلاط، وسيأتي بغتة ليحول تذمرنا الى حقيقة، ويسرق كل هذه الاموال، التي لا يقر بها اصحابها قبل ان تقع المصيبة على رؤوس الضحايا، وعلى رؤوسنا جميعا لأننا بطبيعة الحال نتعاطف معهم نهاية المطاف.
مناسبة هذا الكلام، كثرة القصص التي تثبت كل مرة، ان هناك عالما مخفيا في حياتنا، وحين انفجرت ملفات البورصات عام 2010 قبل سنوات تبين ان هناك مئات الملايين المخفية التي كان يأمل اصحابها بالربح السريع، فتبددت في لحظة دون ان يسأل احد عن مصدر هذه الاموال في مجتمع يقول ابناؤه ان لا مال لديهم، اذ سمعنا كلنا عن بيع ذهب الزوجات، ووجود مبالغ مدخرة كلها سرقها الشيطان في لحظة، فلا انفقها اصحابها على انفسهم، ولا ادخروا فوقها، وحين يتضرر 117 ألف مواطن وضعوا نحو 300 مليون دينار في شركات توظيف الأموال زعمت أنها تتعامل مع البورصات العالمية ندرك حجم الكارثة التي لم نتعلم منها للأسف.
آخر القصص في عام 2022 التي تفجرت قبل ايام والتي تم الاعلان عنها، اختفاء ملايين الدنانير وسط تقديرات تقول ان المبلغ قد يصل الى خمسين مليون، لمواطنين أودعوها بواسطة تطبيقات الكترونية تضمن الربح، لكن من يديرون الموقعين اوقفوا التطبيقات، وبعضهم اختفى.
وفقا للمعلومات المنشورة رسميا، فإنه تم توقيف عشرة أشخاص من جانب الادعاء العام في عمان منهم ثلاثة نساء، اضافة الى وجود اشخاص هاربين خارج الأردن، بعد أن انهالت مئات الشكاوى من مختلف مناطق المملكة الى القضاء، حتى بلغت أكثر من 1200 شكوى، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى أكثر من عشرة آلاف شكوى خلال الاسبوع الحالي، كلهم خسروا اموالهم في هذه التطبيقات التي اوهمتهم بالربح السريع، على طريقة ملف البورصات الشهير.
لم نتعلم اذاً في عام 2022 من قصة البورصات الشهيرة عام 2010، بل جاء بينهما القضية المعروفة باسم ملف الترميش، عام 2015 حيث عملت وقتها دائرة مكافحة الفساد على تقييم حجم قضية البيع الآجل الذي انتشر في الأردن، والتي أدت الى مشاكل كثيرة وحجوزات مالية، وتورط بها عدد كبير من المواطنين، والخسائر المالية كانت بعشرات ملايين الدنانير في هذه القصة.
الخلاصة هنا ليست التشفي او الشماتة بأحد فقد يكون هذا المال الذي خسره الناس، تعبهم المدخر على مدى سنوات، لكننا نتحدث من زاويتين، الاولى ان الكل يتذمر ويدعي عدم وجود مال لديه، لكن النكبات التي تقع تثبت وجود مئات الملايين التي يسرقها الشيطان من اصحابها فيما هم يتكتمون ويتذمرون ويدعون قلة الحيلة، والزاوية الثانية اننا لا نتعلم ابدا من قضايا الاحتيال العادية، ولا الالكترونية، برغم كل التحذيرات التي يتم بثها يوميا.
أحد المسؤولين الأردنيين الكبار قال ذات مرة ان قيمة الاقتصاد المخفي في الأردن تصل الى 30 مليار دينار، وان الحكومات لا تعلم عنه شيئا، وهو غير مرخص، وليس مسجلا، وهو لا يحرض هنا، لكنه يؤشر إلى ان هناك وجهين للحركة الاقتصادية، احدهما سري، والثاني علني.
هذا يعني ببساطة ان هناك عالما ثانيا، ربما تتوثب الحكومات لصيده، لكنه ايضا يفسر وجود مئات الملايين التي تطير في قصص الاحتيال، فيما الضحايا اغلبهم من الفقراء والطبقة الوسطى، وليس الاغنياء، فالسيولة في البلد مخفية، وتتم تغطيتها بالتذمر، لكنها تنكشف في الازمات.
لا نتشفى ولانشمت، ونقول أعان الله الناس على هذه الخسائر.
(الغد)