الخيال ليس خلقاً جديداً، بل هو إعادة ترتيب لأحجار سقطت من إيدينا في الماضي. لذا فالذاكرة هي الخزان الرئيسي للخيال لما تحتويه من عناصر حية تدخل في صناعة المتخيل. يقول الشاعر الانجليزي ستيفن سبندر (١٩٠٩ - ١٩٩٥): "إن قدرتنا على التخيل هي نفسها قدرتنا على تذكر ما مررنا به من قبل". ويقول جابر عصفور: "الخيال-الذاكرة هو صور الواقع أو الحياة بعد تصفيتها ووضع مدركاتها في علاقات مجازية وإيقاعية جديدة".
وكلما كانت تجارب المرء عميقة وثرية، كان خياله واسعاً يتجاوز حدود المألوف بما يعينه على تشكيل علاقات جديدة بين المفردة والحدث ينتج عنها بالضرورة النص الأدبي.
ولأن الشعر انفعال يتذكره المرء في هدوء، كما يقول وليام وردزورث، لم يقصر الشعراء في مهمة التوثيق عبر قصائدهم المختلفة، فقد كان لها فضل السبق في توثيق اللحظات الغابرة عبر العصور والأزمنة، وربما يكون المتنبي أكثر الشعراء حظاً في القدرة على توظيف الخيال في منتجه الشعري، فهو أكثر من دوّن يومياته في شعره مستفيداً من ذاكرة متقدة، كان للبيئة التي عاش فيها وللأحداث التي عاصرها الفضل في صناعة أبعادها الواسعة.
قد ينجح كثير من الشعراء في ترتيب أحجار الذاكرة وصناعة علاقات جديدة بين الحدث والفكرة الشعرية عبر الخيال، لكن القليل منهم فقط من يتمكن من التنبؤ بالمستقبل، لا أعني مستقبل الحياة فقط، بل مستقبل الشعر واللغة والإيقاع، وهؤلاء وحدهم من يعِدُهم الشعر بالخلود.