في علاقات الدول بشعوبها دائماً هناك فتور، وربما أزماتُ ثقةٍ تأسست عبر سنوات بسبب الأحوال المعيشية المتردية، أو المواقف السياسية لهذه الدولة أو تلك، وأيضاً هناك كثيرٌ يمكن أن يُقال في هذه العلاقة من باب كيفية إدارة هذه الأزمات وتفكيكها حتى يتم تقليل الأضرار بالحد الأدنى على الجانبين.
ثمّة دول تستخدم "إعلام التنفيس" سلاحاً ناعماً في مواجهة أطراف عديدة ومن بينها الناس العاديون، أولاً من أجل تخفيف درجة الاحتقان الشعبي خاصة في الظروف الاجتماعية الصعبة، وثانياً لمعرفة توجّهات الجهات المقابلة، وهذا السلاح يؤتي أُكله في كل حين، وهذه الدول بأدواتها المختلفة تسمع وترى، وتتدخل إذا لزم الأمر وتوجّه بوصلة هذا السلاح في الجهة التي تريدها والمرحلة التي تقتضي ذلك، كما لا يُعجزها أن تنقضّ عليه إن تمرّد أو تجاوز الخطوط المرسومة له.
من المستحيل أن تجد أسوأ من مواقع التواصل الاجتماعي في بث الأراجيف ونشر الخراب في الديار، وحتى سفك الدماء، إذا ما وُجِدَتْ أذانٌ صاغية وقلوبٌ تطرب. ومع ذلك تبقى هذه المنصّات بمثابة "إعلام التنفيس"، الذي يصرخ ويسرد البكائيات على الملأ، والبعض الآخر منه، بقدر ما يدخل جيبه، "من يدفع للزّمار يطلب اللحن الذي يريد"، يقول المثل الإنجليزي.
لا أُقلّل من أهمية الإعلام الاجتماعي عندما أصفه بأنه مجرّد إعلام للتنفيس خاصة عندما تتفشى حالة الاحتقان الاجتماعي في أوساط المجتمع، بالتزامن مع ارتدادات الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، بيد أنه يظلّ مجرّد ماكنة ثرثارة تأكل بعضها بعضاً إذا ما وجدت ما تتغذى عليه -"الكذب والتضليل"–، وما يبقيها دائماً على قيد الحياة أنها تجد في الفضولية الشعبية المنفلتة ضالتها والنفس الذي تحيا به وعليه.
مشكلة وسائل التواصل الاجتماعي أن المادة المتداولة فيها سواء كانت مشاهد فيلمية أو سرداً، أو نصوصاً مكتوبة، تعوزها دائماً المصداقية ومشوّهة في الغالب، وتحمل طابع "الشوشرة"، وهي هنا ربما تحمل بذور فنائها في داخلها، وغير مصدّقة حتى وأن كانت تحظى بنِسب مشاهدة عالية، وبالتي لا تكون ذات أهمية ولا تشكل تأثيراً مثل الذي تفعله الصحافة التقليدية سواء كانت مطبوعة أو مواقع إلكترونية، بما تحوزه من رصانة ومصداقية في العرض والتقديم.
بعض الدول تقيس درجة احتقان الشعوب لديها من خلال المحتويات الافتراضية، وفي نفس الوقت هي تتغاضى تكتيكياً عن هذه المواقع وما يُنشر فيها، فقط لنزع فتيل هذا الاحتقان عن طريق إعلام التنفيس الذي من شأنه أن يُبرِّد الرؤوس الحامية ويأخذ بالخواطر المكسورة، ويُمهد الطريق أمام المراحل المقبلة.
أيضاً، هناك قنوات فضائية واسعة الانتشار تقدِّم برامج "شعبوية" متنوعة تتبنّى دور "إعلام التنفيس"، وهي هنا تطرح قضايا الناس بشكل جِدّي ومدروس، وتؤشر على الأزمات التي يعاني منها الشارع بشكل لافت، حتى وإن لم يتم حلّ هذه المشاكل في وقت لاحق، لكنها أوصلت القضية للمسؤول وقامت بالواجب، وربما تجد المذيع يجهد ويحاول أن يُحرج هذا المسؤول، حتى يكون دورُه مقنعاً، وقد تنطلي عليك الحيلة في نهاية المطاف، ومن المُحتمل أن يكون الطرفان متّفقين على شروط اللعبة من بدايتها لكنّ المشاهد الكريم يَخرج مبسوطاً مع انتهاء الحلقة ذات السقف العالي، وقد تم تنفيسه عن الآخر.
وغير بعيد عن ذلك، يمكن تصنيف "الصالونات السياسية" في باب إعلام التنفيس أيضاً، بما تقدمه من عصف رفيع يمسّ الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد، وفي العادة تُحاول هذه النُخب إيصال رسائل مُبطّنة ومرّات عديدة مكشوفة تترقب من ورائها ردود الأفعال الرسمية والشعبية وكيفية التعاطي مع هذه الأفكار والرسائل، بغية بناء مواقف جديدة قد تخدم هذا الجانب أو ذاك.
كما تلعب استطلاعات الرأي العام أدواراً مهمّة في قياس آراء المجتمع حيال مختلف القضايا الوطنية، ومن المُمكن توجيه هذا الرأي بطريقة أو بأخرى نحو فكرة معينة لتقديمها بالنهاية للجمهور، أو حتى تسويقها على أنها الحقيقة الكاملة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، وبالتالي يُمكن استخدام الأسلوب الملائم للتعاطي مع تلك النتائج، سواء كانت مُرضية أو غير مُرضية لهذا الطرف أو ذاك، غير أنها بالنهاية تشكّل مادةً دسمةً في تقصّي حقيقة رأي الناس، إزاء الأحداث اليومية.
بالنهاية، مهما كانت أطراف "إعلام التنفيس" متّفقة أو مختلفة، مسيطرة على هذا الإعلام أم لا، فإنه ينبغي أن تبقى القضايا الوطنية المركزية غير معرّضة للتشويش، أو الاستعراض حتى ونحن نختبر أو نُخفّف من درجة غليان الشارع.