الأمن الغذائي العالمي والأمان الغذائي الإقليمي
د . خالد الوزني
03-11-2022 10:17 AM
تقرير مقلق حول مستوى الأمن الغذائي العالمي صدر أخيراً ضمن «مدونات صندوق النقد الدولي»، المُفزع في الأمر أنَّ الإحصاءات العالمية تشير إلى أنَّ ما يقرب من 345 مليون شخص حول العالم يرزحون تحت خطر انعدام الأمن الغذائي وبشكل مدقع؛ أي إنَّ نحو 5% من سكان العالم بلا أمن غذائي نهائياً. بل إنَّ الإحصاءات تشير أيضاً إلى أنَّ نحو 828 مليون شخص حول العالم ينامون ليلهم يومياً وهم جياع؛ أي إنَّ نحو 12% من سكان العالم ينامون وهم يعانون من الجوع.
والقضية المحورية هي أنَّ هذه الظواهر في حالة تفاقم مستمر منذ العام 2018، بيد أنَّ الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية أجَّجت فتيلها ورفعت حرارة لهيبها وشرارة نيرانها. وما يزيد الطين بِلّة هو أنَّ أسعار المواد الغذائية ارتفعت خلال السنوات الأربع المنصرمة بما يزيد على 50 نقطة مئوية، وجاء معظم الارتفاع تأثراً بما يشهده العالم من تعطُّل في سلاسل الأمداد، والتزويد، بفعل أزمة كورونا بداية، ونتيجة تطوُّرات الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا ثانياً.
ولعلَّ المتأثر الأكبر من ذلك كله هي الدول منخفضة الدخل، والتي تعتمد أساساً على استيراد معظم ما تأكل من الخارج، وفي الوقت نفسه تتلاشى القدرة الشرائية لسكانها بفعل تلاشي قوة عملاتها أمام العملات العالمية، وخاصة الدولار. بل إنَّ التقارير الدولية تشير إلى أنَّ نحو رُبع دول العالم، 48 دولة، باتت تعاني بشدة من قضية نقص الأمن الغذائي وتفشي حالة المجاعة لدى مواطنيها بفعل الحرب القائمة، ذلك أنها تكاد تعتمد كلياً في موادها الغذائية على الدولتين المتحاربتين.
أمّا على مستوى القدرات الاقتصادية للدول الأكثر تأثراً، فإنَّ إيجاد مصادر بديلة للمواد الأساسية، سيكلفها ما يزيد على 9 مليارات دولار أمريكي بين العام الحالي والعام 2023، ما يعني ضرورة تدبير هذه المبالغ من احتياطياتها بالعملات الأجنبية، أو اللجوء إلى مزيد من القروض الخارجية، إن كانت مؤهلة أصلاً للاقتراض الخارجي؛ أي إنَّ تلك الدول أمام معضلة فقدان غطائها الرسمي بالعملات الأجنبية، أو الرَّزْح تحت وطأة مزيد من المديونية المالية، أو التبعية السياسية، وكلاهما مُرّهُ ومرارته شديدان. بل إنَّ ذات التقارير العالمية تشير إلى حاجة معظم الدول المتأثرة بمرارة تزايد أسعار المواد الغذائية الأساسية إلى تقديم الدعم النقدي المباشر للفئات المستهدفة، وخاصة دعم المواد المستخدمة في الخبز من القمح والشعير، وإنَّ فاتورة ذلك ستتجاوز 7 مليارات؛ أي ما يقرب من 7% من حجم الناتج الإجمالي العالمي.
في ظل ما تقدَّم فإنَّ تقرير صندوق النقد الدولي يرى أنَّ الحلول الدولية والقومية يجب أن تتمحور حول أربعة تدخلات أساسية؛ الأول يقوم على ضرورة تدخُّل المؤسَّسات العالمية، مثل برنامج الغذاء العالمي WFP، ومنظمة الغذاء والزراعة العالمية FAO، وكذلك السياسات المحلية في مجال المالية العامة في الدول، نحو تقديم الدعم المباشر للشعوب الجائعة عبر العديد من البرامج، بما فيها توزيع المُؤَن الغذائية، وتسهيل نقل المواد الغذائية من دول الفائض إلى دول العجز، وتقديم المعونات النقدية المباشرة للفئات المستهدفة. التدخُّل الثاني يكمن في الحفاظ على انسياب التجارة بين الدول، وخاصة في المواد الغذائية، بعيداً عن أي معيقات جمركية، تعريفية، أو إدارية. والتدخُّل الثالث يقوم على ضرورة زيادة إنتاج المواد الغذائية على المستوى الوطني للدول، وتسهيل توزيع المواد الغذائية، وخاصة تسهيل الوصول إلى الفئات المستهدفة والمهمَّشة في المناطق النائية. التدخُّل الرابع يكمن في ضروروة الاستثمار في الزراعات التي تتناسب مع التقلبات الكبرى في الطقس، والتي يشهدها العالم، ما يستدعي الاستثمار في وسائل البحث والتطوير التي ستُفضي للوصول إلى تحقيق أمن غذائي أكثر استدامة وتمكيناً ومقاومة للتقلبات المناخية العالمية.
إنَّ الوجبة الكبيرة السابقة من الإحصاءات والبيانات المُفزعة نسبياً، تستوجب على الدول التي ترغب في استشراف مستقبلٍ أفضل، أن يتوجّه صنّاع القرار فيها نحو منظومة عمل متكاملة آنية ومستقبلية تُركِّز على مفهوم الأمن الغذائي ضمن سياق الأمن والأمان الاقتصادي والاجتماعي بل والسياسي الكلي للدولة. وهو سياق يتطلَّب انتهاج خمس سياسات اقتصادية اجتماعية محدَّدة تتوزع أدوارها بين القائمين على السياسة المالية والسياسة الزراعية والسياسة الاجتماعية للدولة.
وتتلخص السياسة الأولى في ضرورة التركيز على دعم الفئات المستهدفة، عبر تحويلات نقدية مباشرة وموجَّهة لتلك الفئات؛ أي إنَّ الدعم الشامل للسلع الغذائية سيضرُّ ليس فقط بموازنة الدولة، بل بالقوة الشرائية للعملة مستقبلاً وقد يؤدي إلى استنزاف الاحتياطيات الأجنبية في الدول التي تعتمد في تغطية الفجوة الغذائية لديها على السلع المستوردة.
وعليه، فإنَّ الدعم المقبول سيكون في شكل دعم نقدي لفئات الدخل المحدود والمتدني دون غيرهم، ويمكن إضافة بعض فئات الدخل المتوسط ممَّن هم في الشريحة الدُّنيا من تلك الفئة فقط.
أمّا السياسة الثانية فتتطلَّب أن تقوم مؤسَّسات الحكم المحلي في المحافظات، مثل البلديات والمناطق الإدارية، على تشجيع المشاريع الزراعية الصغيرة والمتوسطة، مع التركيز على تلك المشاريع التي تؤمِّن الاكتفاء الذاتي لكل منطقة، وتحقِّق بعض الفائض للمناطق المجاورة، وهنا فعلى صنّاع القرار معاملة مؤسَّسات الحكم المحلي الإدراية كاقتصاد زراعي صغير له ميزات نسبية في محاصيل زراعية يمكنه أن يتاجر بها ويتبادلها على شكل مقايضة مع المناطق الأخرى. فالأمن الزراعي المحلي هو سبيل الأمن الغذائي الوطني، ومؤسَّسات الحكم المحلي قادرة على تحديد ميزاتها النسبية والتنافسية، وقادرة على تفويض بعض المساحات للغايات الزراعية، بل ويجب أن تكون قادرة على تقديم الدعم الفني، والتقني، والمالي أحياناً، للزراعات المنزلية والزراعية الحقلية في المناطق التي تخضع لسلطتها الإدارية.
أمّا السياسة الوطنية الثالثة فتتطلَّب التنسيق التام بين صنّاع القرار الزراعي والحكم المحلي والخزينة العامة، بحيث يتم وضع منظومة سياسات شفافة، عادلة، نزيهة، وذات حاكمية رشيدة عالية لتفويض قطع من الأراضي العامة الصالحة للاستصلاح الزراعي لفئات الشباب من الجنسين ضمن فترات محدَّدة يتم خلالها تدريبهم، وتأهيلهم، وتوفير الدعم الفني، والمالي، والزراعي لهم، بما في ذلك بعض البذور، والمبيدات، والسماد المطلوب، وذلك للقيام بفلاحة تلك الأراضي وفق روزنامة محدَّدة، من حيث المحاصيل، ومن حيث التوقيت، مع ضمان شراء تلك المحاصيل بعائد لا يقل عن 10%، وعلى مدى 7-10 أعوام يتم بعدها نقل ملكية الأرض للشخص المعني، في حال تمَّ الالتزام حصراً بالعمل شخصياً، وفق والشروط والروزنامة المحدَّدة وضمن تقارير سنوية عن حجم الإنتاج، والالتزام.
والسياسة الرابعة تتطلَّب توفير سياسات استثمارية نوعية، ضمن مناطق اقتصادية خاصة، تكفل شراكة حقيقية كبرى، ضمن مفهوم الشراكة مع القطاع الخاص PPP، مع كبرى شركات الإنتاح الغذائي والحيواني المعروفة عالمياً أو إقليمياً أو محلياً وذات الخبرة النوعية الكبيرة، وذلك عبر تفويض قطع أراضي كبيرة نسبياً دون مقابل، سوى شراكة الحكومة في العوائد، وعبر تقديم كافة أنواع التسهيلات النوعية، بما في ذلك كافة الإعفاءات بما فيها ضرائب الدخل، شريطة أن توجَّه تلك الشراكات نحو منتجات غذائية محدَّدة، تغطي الجزء المهم من الفجوة الغذائية للدولة.
ومن الممكن أن يُشكِّل ذلك بعض الفوائض التي يجب أن يتمَّ حصر تصديرها، وفق سياسة مبادلة بسلع غذائية، إقليمياً أو عالمياً، تغطي النقص في بعض الأوجه الأخرى من الفجوة الغذائية للدولة.
وأخيراً وليس آخراً، تأتي السياسة الأهم والمتمثلة بتشجيع كافة أشكال الإبداع والابتكار الشبابي والعلمي والأكاديمي في البحث والتطوير في المجالات الزراعية، وتحويل الجهود في العديد من الجامعات وبيوت الخبرة إلى البحث العلمي المتخصِّص في مشاريع ابتكارية إبداعية، وتمويل تلك المشاريع عبر موازنات متخصِّصة بالبحث العلمي، سواء أكانت من الخزينة العامة مباشرة، أو عبر المساعدات الدولية، أو من خلال ما يمكن أن تقدمه الشركات الكبرى والبنوك من مسؤولية مجتمعية يتم توجيهها خصيصاً لدعم ابتكارات الشباب في المجال الزراعي. وهو أمر يتطلَّب تعاون وزارات التخطيط والمالية والتعليم العالي والزراعة للوصول إلى بناء صندوق وطني لدعم البحث والتطوير والابتكار الزراعي، وفتح نماذج محدَّدة في عدد من الجامعات كحاضنات أعمال او كمُجَمَّع أعمال زراعي Agriculture Business Park بالتعاون مع القطاع الخاص، وضمن مفهوم تجاري يؤدي إلى تحقيق عوائد للمبدعين وللجامعات وللمساهمين من القطاع الخاص.
وأخيراً وليس آخراً، فإنَّ تحقيق الأمن، بل الأمان، الغذائي هو تحقيقٌ للأمن المجتمعي بكافة أشكاله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدول، ويتطلب ذلك أن يكون هناك تعاون قومي على مستوى المناطق في العالم، والمنطقة العربية على رأس ذلك، يتم من خلال برامج دعم زراعية قومية، وصناديق استثمارية زراعية مشتركة، وتبادلات تجارية زراعية بين دول الفائض والعجز في كل محصول زراعي أو ثروة حيوانية، وذلك بهدف تحقيق أمن وأمان غذائي قومي ، وهو أمر قابل للتحقيق على مستوى المنطقة العربية بتركيبتها السكانية الشابة، وتنوُّع مناخها، وتضاريسها، وغنى أراضيها، وتوافر إمكانات كبرى في مجالات الثروة الحيوانية والزراعية بل والمالية على حدٍّ سواء.
* أستاذ مشارك سياسات عامة كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
khwazani@gmail.com