عندما يفارقنا الأحبة بالموت، فاننا نخسر جزءا من حياتنا الشخصية، ونفقد جزءا من عالمنا الخاص، فتتولد مشاعر الآلام والحرمان ممن نحبهم.
هنا تأتي حكمة عزاء الاهل بموت فقيدهم بمواساتهم، والمعزي له أجر وثواب مصداقا لحديث سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): مَن عَزَّى أخاه المؤمنَ في مصيبةٍ كَسَاه اللهُ حُلَّةً خضراءَ يُحْبَرُ بها يومَ القيامةِ، قيل: يا رسولَ اللهِ ما يُحْبَرُ؟ قال يُغْبَطُ».. ومعظم المجتمعات العربية تخصص ثلاثة أيام للعزاء، يتخللها تقديم الطعام لاهل الفقيد ولضيوفهم، و هذه العادات تحولت مع مرور الزمن الى طقوس مكلفة ماديا، كاقامة صيوان او استئجار قاعة، والتعاقد مع المطاعم لاعداد الوجبات للضيوف، بالاضافة إلى تكاليف القهوة والمياه وغيرهما كما في الامارات والأردن وريف مصر.
أما تقاليد العراقيين فتفرض عليهم ما يعرف بـ"واجب» العزاء، وهو مبلغ من المال يدفعه المعزون لمساعدة أهل الفقيد في تحمّل أعباء العزاء الممتد لثلاثة أيام، و أحياناً لأسبوع إن كان المتوفى من الوجهاء.بالاضافة إلى تكاليف الإعلان عن الوفاة.
ففي قرى وصعيد مصر فيتم الإعلام عن الوفاة عبر سيارات تسير بالدعاية عبر الميكروفون، أو عبر طباعة أوراق النعوة ولصقها على الجدران بالشوارع المجاورة لاهل المتوفي كما في الامارات، ثم صارت المجتمعات العربية تعلن عن الوفاة عبر وسائل التواصل الحديثة.
ترتبط موائد العزاء في بلادنا العربية بالكرم العربي، والتكافل الاجتماعي، وأيضا بالتفاخر الاجتماعي، فحتى ولو كان أهل الميت من الفقراء فان عمدة القرية أو شيخ القبيلة يتولى بنفسه احضار الذبائح واعداد الطعام للمعزيين.
لقد تحرر الاردن ومعظم بلدان العالم العربي من سطو بعض العادات الخاصة بالعزاء، اذا دفعت جائحة كورونا الشعوب الى اقتصار اداء واجب العزاء عبر رسائل الموبايل، او استخدام التليجراف كما في مصر مع الرسائل الاليكترونية. وبعد انتهاء الجائحة عادت طقوس صيوان التعازي واطعام الوافدين اليها لكن بصورة اقل كثيرا مما كانت عليه قبل كورونا، بسبب الظروف الاقتصادية التي لا تتحمل الاسراف.
مؤخرا شاركت في تقديم واجب العزاء بالكاتبة والقاصة الأردنية د. هدى الفاخوري، وهي من أبرز كاتبات الأطفال في الأردن. وتعد قامة من القامات الأدبية، والتي طالما سعت في كتاباتها الى غرس القيم الوطنية، وتغذية نصوصها بالمفردات الشعبية والتراثية، وتضمينها العادات والتقاليد الموروثة، وثمنت تجربتها الابداعية بالاحترام والتقدير والجوائز.
ورغم الحزن البادي من نظرات الحضور تأثرا بألم الفقد، فان هذا العزاء تحول بمرور بعض الوقت الى ما يشبه صالون ثقافي ناقش فيه الحضور قضايا فكرية واجتماعية مختلفة، وكأن الكاتبة الراحلة حاضرة بروحها معنا. اللافت في عزاء الراحلة انني عندما هممت بمغدرة قاعة العزاء قام أهل الفقيدة بمنحي ثلاثة كتب من اعمالها، ورغم انه كان يمكنني الاكتفاء بكتاب واحد لاتاحة الفرصة للاخرين فالكاتب ليس اناني بطبعه، الا انهم أصروا على منحي الكتب الثلاثة باعتباري كاتبة ويمكنني الاستفادة من هذه الكتب.
خرجت من القاعة وقلبي كله دعاء بالرحمة والمغفرة لهذه الكاتب التي غذت اجيالا بفكرها وعملها، وايضا بداخلي شعور ان الكاتب والفنان كما كانت حياته مختلفة من خلال تعاطيه مع الفكر والوجدان واضاءة العالم من حوله بنور العلم ورقي الادب، فان مماته وعزاءه أيضا مختلف لانه يشع بنور المعرفة ومداد الثقافة.
(الراي)