خلال العشرة أيام الماضية كان الأردن على صفيح ساخن إذ ارتفعت فيه حدة النقاشات الى مستوى غير مسبوق، الكل يتهم الكل في سجال لغوي يتخذ أحيانا شكل المواجهة المباشرة دون أي مواربة، وآخر تتوارى معاني الكلمات الحقيقية وراء غلاف منمق من التعابير التي تتحدث عن الوطن والمواطنة ولكنها في حقيقتها تبث سُماً قاتلاً في مجرى النقاشات وترفع سويتها الى مستوى من الضغينة يكاد يصل بها حدّ المواجهة المباشرة، قد يعتقد البعض انني اتحدث عن حرب أو مقدمات حرب لكن الحقيقة أنني لا أتحدث سوى عن مباراة لكرة القدم طرفيها ناديان أردنيان لكنها أخذت منحى هوياتي في وطن يفترض أنه موحد لهذين الناديين هما الوحدات والفيصلي.
تعود المتابعون لكلا الناديين ان يستمعوا الى شتى أشكال السباب والشتائم اثناء اللعب او على حدود الملعب، لكن في هذه المرة تجاوز السباب جدار الملعب وحدود المتعارف علية لينتقل الى مستويات أعلى بالذات بعد أن قرر الاتحاد نقل المباراة إلى مكان آخر بسبب حالة الشغب التي أعقبت إحدى المباريات وأدت الى وفاة طفل تبعها تداول العديد من الفيديوهات بسرعة النار في الهشيم، وفي الاثناء راقب كل طرف ما يبثه الطرف الآخر او يقوله بعيني صقر في محاولة لإثبات تورطه بالتنصل من الوطن، وصل الأمر إلى حدود غير مسبوقة وتسابقت النخب على اشكالها بتبني الحدث وتلقفت الموضوع كهدية من السماء وبدأت تزاود على الجميع في لغة غطى عليها الحرص، لكن الاجندات الحقيقية لها لم تخف على أحد وبدأت بممارسة اللغو والتصعيد الى حد قسم المجتمع والبلد الى نحن وهم، أصبح هناك (أنا والآخر)، وبرز خطاب التخوين والإخراج من ملة المواطنة كالمنشار يقسم البلد بشكل عامودي الى نصفين كل طرف يرى نفسه الفرقة الناجية.
وفي لحظة اثبتت الوقائع ان كل محاولات الدولة في خلق هوية موحدة باءت بالفشل الذريع، ليس هذا فحسب بل حتى الاحزاب فشلت هي الأخرى وهي التي تبنت خطاباً نأى بنفسه وتعالى عن فكرة الوطن نحو قضايا مصيرية أخرى كالقومية والاسلامية وحتى القضية الفلسطينية التي استُغلت أسوأ استغلال لتحقيق مكاسب سياسية بل واعتبرت هذه الاحزاب الدولة الأردنية كياناً وظيفياً يزول بزوال تلك الوظيفة، وهي بذلك أخفقت في بناء حلقة وصل مع المواطنين ومشاكلهم لذلك فقدت قدرتها على تأصيل هوية وطنية تكون هي شريكاً في صنعها لكن اللوم الأكبر تقع مسؤوليته على الدولة وأجهزتها وجهازها الإعلامي والتعليمي الذي فشل في إنتاج رواية وطنية تشدّ إليها الجميع.
لا يمكن المرور على ما حدث مرور الكرام ولا يمكن حصره في مباراة او فريق، فهو أبعد وأعمق من ذلك فقد كشف عن وجود آخَرَين إحداهما شرق أردني وآخر أردني فلسطيني وكل طرف يحمل مظلوميته من الطرف الآخر، وكلاهما يكيل الاتهامات للآخر بغض النظر عن ماهيتها إلا أنها موجودة، ومحاولة إنكارها أو القفز فوقها او القفز الى الأمام دون معالجتها سيحمل اخطاراً كبيرة على مستقبل الدولة الأردنية، والحلول لا تبدأ من المداهنة المعهودة للنخب السياسية بل يجب أن تبدأ من الاعتراف بها ومحاولة التعاطي معها على مستوى الدولة التي يجب أن تتخلى عن جمودها تجاه هذا الموضوع وايضاً على الأحزاب الناشئة والسابقة بأن تتوقف عن ترفعها على الأحداث الوطنية فلا يمكن بناء موقف تجاه القضايا الكبرى بالتعالي عن تلك القضايا، ولأن البلد موعود بحالة سياسية تتكئ على الأحزاب كما هو مؤمل وحتى لا تنقسم البلد الى حزبين رئيسيين حزب الفيصلي وحزب الوحدات بكل ما يعنيه ذلك من انقسام عامودي في هيكل المجتمع، لذا على الجميع في الدولة بأجهزتها والمجتمع بكل تكويناته أن يدخل في مواجهة حقيقية مع الذات في محاولة جادة كي لا تتدحرج الحالة الوطنية مرةً اخرى بين أقدام لاعبٍ هاو يميل بها ذات اليمين وذات الشمال ويضع مستقبل البلد وأجياله على شفا الهاوية لا سمح الله.
وفي النهاية لن يغيب عن بالي كمّ القهر والأسى الذي وجدت أحد اصدقائي عليه وهو يستمع الى مقطع مسجل عن الموضوع بلغة مداهنة مسمومة قادرة على شلّ اي احساس صادق بالوطن والمواطنة.
الغد