لم تختار روسيا الإتحادية الحرب على جارة التاريخ أوكرانيا، ولم تتورط فيها كما تعتقد ماكنات الإعلام المختلفة العاجزة عن قراءة المشهد الروسي – الأوكراني والغربي الذي يمثله حلف (الناتو)، لكن الغرب والذي تتقدمه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفهم (الناتو) المعادي لروسيا راقبوا مسرح التقلبات السياسية الأوكرانية مبكرا وعملوا على تغذيتها لمصلحتهم بواسطة أجهزتهم اللوجستية التي تتصدرها جهاز الـ ( سي آي ايه ) التي اخترقت الثورات البرتقالية تباعا، ودرسوا معا حالة عدم رضا غرب أوكرانيا عن العلاقة مع موسكو، وقاد الحراك الأوكراني حينها أي قبل عام 2014 التيار البنديري المتطرف القادمة جذوره كما أذكر دائما من أتون الجناح النازي الهتلري في الحرب العالمية الثانية 1939 1945، وهو الذي طور عمله عبر تشكيل فصائل متطرفة أطلق عليها أسم " آزوف " نسبة إلى بحر ومنطقة أزوف في مدينة (ماريوبل وحولها) شرق أوكرانيا التي اشتهرت بوجود مصنعها ( أزوف ستال ) الذي حررته روسيا هذا العام من العناصر المتطرفة التي تحمل نفس الاسم. وقلب الغرب الأمريكي الأوراق السياسية في ( كييف ) بعد انجاحه الانقلاب الدموي عام 2014 الذي استهدف استئصال الحضور الروسي من أوكرانيا، وتمثل في طرد آخر رئيس أوكراني موالي لروسيا مثل فيكتور يونوكوفيج رغم موافقته البطيئة على انضمام أوكرانيا للاتحاد الأروبي، وهو الأمر الذي طوره غرب أوكرانيا للإنضمام لحلف ( الناتو ) العسكري، وبالمناسبة يتكون الحلف الذي تأسس عام 1949 من 30 دولة غربية منها ثلاثة فقط وهي ( أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا ) يمتلكون السلاح النووي، بينما هي روسيا تمتلكه لوحدها وسط المنظومة السوفيتية، ولا تمتلك حلفا عسكريا في المقابل، وزمن حلف ( وارسو) أصبح من الماضي وهو الذي تأسس عام 1955، وعلاقة استراتيجية لروسيا مع الصين، والهند، وجنوب افريقيا، والبلاد العربية، والجناح الشرقي من العالم.
وروسيا تمتلك قوة نووية عسكرية وفضائية خارقة لا تقل أهمية عن قوة حلف ( الناتو ) مجتمعا، والتلويح بحرب نووية محض سراب، وتعني نهاية البشرية والحضارات والعالم لدرجة كبيرة لن تبقي على قيد الحياة غير من يختبيء بالملاجيء النووية ذاتها، ولا تعتبر عمليتها العسكرية حربا أو احتلالا، وأية حرب مباشرة مع ( الناتو ) لو حصلت - لا سمح الله - لن تكون تقليدية بل نووية مدمرة أكيد، والذي لا أتمنى أن يحدث، بل على العكس تماما أدعو دائما للسلام والعودة لطاولة الحوار الروسية – الأمريكية والغربية أولا، ومن ثم مع غرب أوكرانيا، بسبب وقوع الفأس بالرأس، وخسران ( كييف ) لفرصة الحوار المبكر مع موسكو، وعبر اتفاقية ( مينسك 2015) منذ عهد الرئيس الأوكراني السابق ( بيترو باراشينكا) وبضغط غربي أمريكي ملاحظ بهدف تحقيق مصالح مشتركة في مقدمتها اطالة الحرب، واستنزاف روسيا، وتطويقها، ونخرها حتى من الداخل من خلال سحب الانتاج الغربي من أسواقها، ولخسران ( كييف ) أيضا وإلى الأبد في المقابل اقاليم ( القرم، ولوغانسك، ودونيتسك "الدونباس"، وزاباروجا، وخيرسون )، ومانشاهده اليوم من اختراقات لاقليم -خيرسون - بجهد سلاح وتمويل الغرب الملياري الدولاري هو مؤقت، وروسيا تعتبر الأقاليم الجديدة كلها جزءا من السيادة الروسية – وهي خط أحمر، ولقد تجاوز الأسناد الغربي الـ 20 مليار دولار في الحرب الأوكرانية بالمجمل، والذي اعتبره استنزافا للغرب الأمريكي نفسه وأولا في زمن حاجة أوكرانيا لإعادة البناء، فمن قاد أوكرانيا لمثل هكذا مشهد وصورة سياسية وعسكرية واقتصادية مرعبة، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أم الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي؟ أم قادة الغرب المغرر بهم كما زيلينسكي، أم الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت تفقد قطبها الغربي الواحد في ظل حضور عالم الأقطاب المتعددة التي بدأت تقوده روسيا بوضوح منذ انطلاق عمليتها العسكرية التحريرية الاستباقية بتاريخ 24 شباط 2022 ؟
لقد بدا لي بأن الغرب بمجمله يشبه الفأر بجوار كيس الطحين، ودوره الناخر في الحالة الروسية – الأوكرانية واضحا، ويتجه لصب الزيت على نار الحرب، وليس للصلح والسلام عبر الحوار المعقول، ونحن نعرف اذا ما نشب خلاف بين الجيران مثل روسيا وأوكرانيا، الأصل ان يهب أهل الحارة ومن يسمع به من خارج المنطقة للتهدئة تماما كما يفعل العرب والأتراك رغم ضغوطات أمريكا على دول العالم الصديقة لها وعبر المساعدات المالية للتصويت لصالح ادانة ضم الأقاليم الأوكرانية الخمسة بين عامي 2014 و2022، وموضوع الضم اعتمد على استفتاءات نزيهة ورقابة دولية اشتركت بها عدة دول مثل ( فرنسا، وأمريكا، وألمانيا، ومصر، وسلوفاكيا، والكاميرون، وايطاليا، وجنوب افريقيا )، وهو ليس احتلالا، ولا تقبل (موسكو) اجراء مفاوضات مع ( كييف) حولهم، وانما حول السلام الممكن بين روسيا وغرب أوكرانيا عبر (واشنطن) وعواصم الغرب المعنية بالازمة الاوكرانية برمتها .
والتاريخ الروسي – الاوكراني متشابك وتعود جذوره لعهد قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين مؤسس المكون الأوكراني ولغايات زراعية، ولعهد الزعيم السوفيتي نيكيتا خرتشوف عام1954 الذي عمل على ضم اقليم القرم لأسباب استراتيجية مائية في زمن السياسة السوفيتية المتشابهة وسط سعير الحرب الباردة، وواصلت روسيا تراقب المشهد الأوكراني مبقية على ( القرم) في العهدة الأوكرانية حتى عام 2014 رغم موقعه الاستراتيجي الحساس بسبب وقوف الأسطول الروسي النووي في مياه بحره الأسود، وهو عام التوجه الأوكراني الغربي اتجاه الغرب وادارة الظهر بالكامل لروسيا جارة التاريخ والاقتصاد والسياسة الواحدة، وما اتبعته ( كييف ) من خطوات عدائية لروسيا كانت أكبر، بينما كان بإمكانها أن تمسك عصا السياسة من الوسط، ولنا في تركيا الجارة الأبعد خير مثال، والتي هي جزء من (الناتو)، ولم تساند أحقية أقليم ( القرم ) مثلا لروسيا، واشترت منظومة صورايخ (اس (400 الدفاعية من روسيا، والآن تتوجه موسكو لتحويلها لمركز لمادة غازها اتجاه اوروبا في خطوة ذكية قل نظيرها، وتصريح حديث للرئيس بوتين في جلسة لمؤتمر (فالداي) في موسكو الخميس المنصرم بأن الأحداث العالمية مستمرة في التقدم نحو اتجاه سلبي، متهما الغرب بممارسة لعبة خطيرة ودموية وقذرة حول العالم على حد تعبيره، متهما الغرب ذات الوقت بصناعة ثورات ملونة في مختلف الدول بهدف السيطرة على العالم .
يقول الكاتب الروسي الكسندر شيركوراد في كتابه " أوكرانيا – الحرب والسلام – الصادر في موسكو العام الحالي 2022 " قبل عام 1991 كان تاريخ أوكرانيا واحدا حسب المقياس السوفيتي، وبعد ذلك ظهر تاريخ جديد لها مليء بالفانتازيا، وبدأت بالتخلص من اللغة الروسية لإثبات أنها لم تمتلك شيئا مشتركا مع روسيا. والآن إما السلام عبر الحوار الدولي الكبير الهادف والضامن لأمن العالم، وإما الذهاب لحرب مدمرة تهدد أمن الانسان أولا والحضارات ثانيا.