تربطني بـ(مأمون) علاقة وجدانية مركّبة التفاصيل؛ فهو من جهة قريب (قرابة الدم أقصد)، ومن جهة ثانية ثمة تلاقي روحاني بيني وبينه، كما أن شعورًا عميقًا بالمسؤولية يجعلني أوليه اهتمامًا خاصًا بعد وصوله إلى مرحلة الشيخوخة وما لهذه المرحلة، وما لها، فلا عليها، ولا يطلب ممن وصلوا إلى هذه المرحلة شيء، بل يُطلب لهم، فهم، يُفترض، أنهم قدموا خلال مسيرة حياتهم ما عليهم، وجاء الدور على الأهل، والجيران وعموم المجتمع والجهات الرسمية، وغير الرسمية، لتقدم لهم ما ينبغي، وما يشكّل أقل واجب، وأبسط ردّ جميل.
أما أكثر ما يربطني به، أن مأمون، ومع وصوله هذا القدر من العمر، هو من ذوي إعاقة ذهنية بسبب مرضٍ نادرٍ، تتوقّف في مرحلة منه، خلايا الدماغ عن التجدد، ما يسبب إعاقةً لجملةٍ من الأنشطة الحيوية، ويؤدي إلى تراجع التفاعل الذهني.
رافقته سنين عمره الأخيرة كلّها، عشتُ معه، مطالع تسعينيات القرن الماضي، تعلّقه الحنينيّ بالأمكنة القديمة، ينزل من بيت شقيقه في الشميساني نحو وسط البلد وشارع الشابسوغ مشيًا على الأقدام، وحين تعبت الأقدام، وخشيتُ عليه من متاهة عمّان بعد توسعها وتوحش الأبنية فيها، صرت أرافقه مشواره هذا بسيارتي. يزور المقهى القديم الذي كان قبل أن يشتدّ المرض يجلس فيه. يظل يسير إلى أن يصل محل الحلاقة المعتّق هناك. خارطة طريق واضحة في عقله الأبيض الناصع. أمكنة محفوظة في صفحة المعنى داخل ما تبقى من خلايا دماغ. نوستالجيا حارّة تربطه بالشجر والحجر وملامح الوجوه.
مع تقدّمه بالعمر، وزيادة أعباء الحياة على كاهلي، فكّرنا أنا ومجموعة من الأهل والأصدقاء، أن مراكز المسنّين التابعة للتنمية الاجتماعية قد تكون حلًّا مناسبًا، لأفاجأ أن هذه المراكز أيامها لا تستقبل المسنّين من ذوي الإعاقة، لم يسعفنا في مساعينا إلا مركز موجود في جرش، مشكلته الوحيدة أن المقيمين فيه غير مفصولين عمريًّا، فالأطفال مع كبار السن، والأجنحة تعاني من بعض فوضى.
ومن هنا بدأت الحكاية، فكّرتُ بشكلٍ جماعيٍّ مع الأهالي الذين لهم أهل وأقارب وأبناء في المركز، وقررنا، بعد عصفٍ ذهنيٍّ عميق، تشكيل مجلس أهالي له صندوق ونظام داخليّ وجدول مهام وخدمات. كان ذلك في العام 1993، الميسور يساهم بمبلغ أكبر من غيره، وذو الوفرة يعطي من وفرته، ووزارة التنمية الاجتماعية مشكورة ومشكورًا وزيرها أيامها معالي الرجل الفاضل محمد خير مامسر، تحمّست للفكرة، وقدمت كل دعم لها. استأجرنا فيلا في سحاب مكوّنة من طابقين وبأجرة سنوية عشرة آلاف دينار، وأسهمت وزارة التنمية بتأمين احتياجات المركز الجديد من قوى بشرية وتجهيزات سريرية وما إلى ذلك، ومع تطوّر الفكرة وتلمّس معطيات نجاحها على الأرض، بدأت مؤسسات مجمتع مدني أجنبية تقدم أشكالًا مختلفة من الدعم، منها مؤسسة سويدية وأخرى يابانية، قدمتا أجهزة وحافلات ورسومات وما إلى ذلك. في المركز الجديد فصلنا ذوي الإعاقة من الأطفال وصغار العمر، عن ذوي الإعاقة من المسنّين، والواصلين سواء مرحلة الشيخوخة المبكرة، أو المتقدمة. كانت تجربة فذّة تفاعل معها الجميع في المركز، خصوصًا جناح المسنّين، وبدأوا يُظهرون أشكالًا مختلفة من المهارات والتمايزات، وكشفوا كم نحب، نحن بنو البشر، الحياة، وكم نواصل طَرْقَ أبواب الأمل المنثورة فوق دروبها هنا.. وهنا.. وهناك.
قمنا بتعيين 30 مستخدمًا يساعدون جناحيّ المركز، ودفعنا لهم رواتبهم من صندوق مجلس الآباء والأهالي (هكذا كان اسمه). أما الحدث الأكثر إشراقًا الذي أبهج قلوب ساكني المركز من المسنّين والصغار، فهو عندما نظّمنا رحلة إلى العقبة، حيث قضينا هناك أربع ليالي وخمسة أيام، تغيّر فيها مِزاج أبناء المركز بشكل لا يصدّق. فرحوا.. غنّوا.. ابتهجوا.. ركضوا على امتداد الشاطئ، ولن أنسى ما حييت الدعم الكريم الذي قدّمه لهذه الرحلة سمو الأمير فراس بن رعد بن زيد، دَعَمنا، وشاركنا، وكان معنا، وكان من أجلنا، وكان من أجلهم، ورقص مع المسنّين، ورقص مع الأطفال، في سهرة تبرّع بها، مشكورًا، فندق من فنادق العقبة. مؤسسة الموانئ لم تقصّر أيامها، فالرحلة لاقت الترحيب والدعم الكبير من الجميع، بصدق من الجميع وبدون استثناء. كانت رحلة كبيرة عرمرمية، فكل حبيب من ذوي الإعاقة من الجناحين كان معه مرافقيْن اثنين من أهله، وأنا كنتُ وحدي مع مأمون الذي سال الفرح فوق وجنتيه دموع معنى، وعبَرات شكرٍ ورضا، وعبارات دفء.
كان لكلِّ حبيب من ذوي الإعاقة في جناح المسنّين قصة، ولكل منهم ما يتميّز به عن غيره، كانوا يشكّلون ضمّة وردٍ متنوّعة الألوان، نديّة العطور.
أحدهم كان يحل أي مسألة رياضيات بسرعة مذهلة تفتح أبواب الدهشة فوق الأفواه. آخر كان يوصل قدمه حتى رأسه رغم أنه غير نحيل. مأمون كان فجأة يغنّي، وفي أخرى يسمّعنا شعرًا لا أدري متى حفظه ومن نظمه.
أشواق وحكايات ولحظات لا تنسى قضيتها مع مأمون وبالتالي مع كل من جاوره في المركز، تجربة علّمتني الكثير، وعمّقت داخل ضلوعي أن كبارنا هو كبّارتنا وبركتنا المزروعة عميقة في وجداننا.
علاقتي مع مأمون ومن معه، غيرت كثيرًا من قناعاتي وموروثاتي الخاطئة، وترددي اليومي على المركز/ الفيلا في سحاب، أظهر لي كم أبناء الأردن معطاؤون، وكم لديهم من قدرات تعامل لائق نبيل مع الناس، كل الناس، على اختلاف ظروفهم، وتنوّع أحوالهم، وكم يملكون من ثقافة قبول عميقة المعنى، ضاربة في جذور قيمهم وسواديهم وعاداتهم، وهم كانوا يتبنّون كل هذه المعاني قبل أن تصبح شعارات دولية، ومنطوقات أممية، وفي هذا السياق لا بدّ لي من ذكر بعض أصحاب الأيادي البيضاء خلال تجربتنا في فيلا سحاب ومنهم: وائل مسعود وسميح البراري، وشكر صاحبات العطاء الجميل ومنهن: نسرين النجداوي، سهام الخفّش، فوزية السبع، وغيرهم وغيرهنّ، وليعذرني كل من نسيت ذكره، ولتعذرني كل من نسيت ذكرها، فكل ذلك كان قبل أكثر من ربع قرن مضى، وقبل أن تتحوّل المراكز بمعظمها إلى القطاع الخاص، ويصبح ذوي الإعاقة المسنّين ممن دخل أقاربهم محدود، ولم يخبّئوا تحت البلاطة شيئًا، في مهب ريح الألم، الذي لا يملّ، على طول المدى، من التمسّك بالأمل.
برضًا، لمحته في كلِّ جوارحه، رحل مأمون، بكيتُه بكل جوارحي، بكيتُ أيامًا جميلة قضيتها معه، أما عزائي، وأمّا ما خفّف حزني على رحيله، فهو أنه أمسك، قبل أن يودّعنا إلى غير عودة، بمفاتيح الحياة جميعها، عرف المعنى، وبلغ اليقين، وأن رفيقه في رحلته الأخيرة كانت خلايا الطفولة الناصعة النقاء، الغامرة البراءة.