بات التشكيل العسكري «عرين الأسود» الذي يشن منذ عدة أشهر عمليات عسكرية منتقاة ودقيقة ضد قوات الاحتلال في عموم الضفة الغربية والقدس هو اللغز المحير للدوائر العسكرية والأمنية لدى الاحتلال، فهذا التشكيل بقدراته القتالية المميزة، وكسره لقواعد الاشتباك مع الاحتلال والانتقال من دور التصدي لهذه القوات واعتراضها إلى الدور الهجومي لها بات تحدياً أمنياً لم يعشه الاحتلال منذ بداية الالفية الثانية، أما أخطر ما يحير المحتل هو عجزه في العثور على طبيعة البنية التنظيمية لهذا التشكيل، واكتشافه عدم وجود لون «أيديولوجي محدد» وأنه تشكيل عسكري يقاتل تحت راية «لا إله إلا الله، والقدس»، ويضم بصورة رئيسية مقاتلين من فتح (كتائب شهداء الأقصى)، وحماس (كتائب عز الدين القسام)، وحركة الجهاد (سرايا القدس)، ولا يوجد لهذا التشكيل العسكري المنوع قيادة ولا غرفة عمليات، فقرار أي عملية ضد الاحتلال يٌتخذ ميدانياً ويتم تنفيذ العملية في أغلب الأحيان بصورة فردية تجعل من الصعب تعقب المنفذ أو «خلية ما»، أو مجموعة ما وهو ما يجعل من الجهد الأمني للاحتلال يتشتت ويضطره للقيام بأعمال عسكرية غاية في الهمجية والإرهاب لا تحقق أهدافها في تضييق الخناق المفترض على (مقاتلي العرين).
وفي الوقت ذاته فإن ظاهرة «عرين الأسود» تشكل تحدياً خطيراً للسلطة الفلسطينية وللتنسيق الأمني بالقدر ذاته الذي يشكله للمحتل، حيث كشفت قدرات «العرين» القتالية في مواجهة الاحتلال والمستوطنين في أماكن وأوقات غير متوقعة، كشفت هشاشة منظومة «التنسيق الأمني» وإفلاسه، وأسقطته وفي خلال زمن قياسي محدود وهو ما دفع ببعض دوائر صنع القرار الأمني للاحتلال باتهام الرئيس الفلسطيني نفسه بالتقاعس في لجم هذه الظاهرة ومواجهتها.
من الظواهر المؤرقة جداً للاحتلال والتنسيق الأمني المرافقة «لعرين الأسود» هي تلك الحاضنة الشعبية العميقة التي سرعان ما تشكلت لحماية مقاتلي العرين في البلدات والقرى والمخيمات والمدن في عموم الضفة الغربية، وهذه الحاضنة وإن رافقت بعض الثورات حول العالم إلا أنها في الحالة الفلسطينية أكثر تجذراً وعمقاً، فالكوفية الفلسطينية التي أصبحت رمزاً عالمياً للحرية والنضال، هي من أكبر الدلائل على عمق الحاضنة الفلسطينية وتميزها، فلبس الكوفية بدا كسلوك مجتمعي ثوري ثم تدرج بالتطور ليصبح زياً شعبياً وجذور هذا السلوك الثوري يعود للثورات الفلسطينية كثورة عام 1921 وثورة عام 1936، حيث كان الثوار يرتدون الكوفية للاختفاء وليظهروا وكأنهم فلاحون وفقاً للباحث في التاريخ الشفوي الفلسطيني حمزة العقرباوي لموقع الجزيرة نت، ويذكر العقرباوي مقطعاً من الزجل الشعبي الذي ارتبط بالحالة العامة التي كرستها هذه الخطوة وقتذاك والتي وصلت لحد أن موظفي الإدارات البريطانية كانوا يرتدون الحطة (الكوفية) على الرأس في طريقهم إلى أماكن عملهم لكي يظهروا مثل باقي الشعب، وردد الفلسطينيون حينها إهزوجة (الحطة بـ5 قروش.. ونذل اللي يلبس طربوش) بقصد نشر لبس الحطة من أول زيادة حيرة وتخبط «الانجليز» في ملاحقة الثوار، وهو ما قام به قبل عدة أيام ابناء مخيم شعفاط بحلق رؤوسهم للتمويه وحماية عدي التميمي بعد أن أعلن الاحتلال أنه حليق الرأس قبل أيام من استشهاده.
من أبرز صفات مقاتلي «عرين الأسود» عدم إيمانهم بالسياسة والفصائل وانحيازهم الكامل لخيار المواجهة العسكرية مع المحتل الذي اعتقد قادته أن القضية الفلسطينية انتهت بانتهاء جيل الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 وبعد عملية «السور الواقي» أيام ارئيل شارون عام 2002، واليوم يواجه هذا الاحتلال الجيل الذي ولد عام 2000 وما بعده والذي يحمل «جينات الثوار الفلسطينيين» منذ عام 1921.
(الراي)