الواحدُ منا خرجَ من بيتهِ أو بَقِيَ فيهِ و إن ابتضعَ من سوق أو اختلىٰ بكتاب و إن مَرِضَ و إن حتى ذهبَ للجامع فيجب أن يكون معهُ خُرْجاً من الصبر يمدُّ يدهُ فيهِ ليستخرج منهُ شذراتِ الصبر علي مشاهدات و مسامع الشارع و تقهقر الذوق والخُلُقْ من البعض، و من سيلُ الأخبار الفاضحة التي يندى لها الجبين و لا يُصدَّقُ أنها تحدث ببلادنا و تنشرها مواقع الأخبار. كأن قاعدة "خالف تُعرَفْ" انعكست، فمن يلتزم و يحترم و يتخلق الخلق الحسن هو المُخالف و من يتعمد سوءه هو الشائع المرغوب.
نُعيدُ ما قلنا و يقول غيرنا، بالتدريج من نافذة المنزل لبوابة المدينة. ماذا نُسَمِّي الصرير الكلاسيكي لسيارات توزيع الغاز و المونوتون الصياحي الميكروفوني للباعة الجائلين الباحثين عن الغسالات و الثلاجات السكراب وسط الأحياء السكنية؟ و ماذا نقول لهدير أبواق الصهاريج المستعجلة و زمجرةَ الدراجات النارية الناقزة في هدئةِ الليل؟ وانصداح الموسيقى الهازجة و انفجارات الألعاب النارية بين البيوت، لأن أحدهم يحتفل؟ ماذا نُسَمِّي انكسار القانون أمام وقاحةِ سائقٍ يُزاحم عن يمينٍ و يسار ليعبرك عن عجل ثم يلتفُّ ليدخل شارعاً لا يبعد إلا أمتار و لو انتظر لما تأخر ثوان؟ أو آخر بالهاتف يد بالهاتف و يد علي المقود و عينين علي الهاتف والطريق ليرسل الرسالة أو يشاهد الصورة و أنتَ وراءهُ لا تعرف نهاية لعبته؟ ماذا تقول لفتاةٍ تترك سيارتها لترقص في الشارع أمام الملأ فلا احترمتْ و لا أُحْتُرِمَتْ؟ أو موكباً يحجز مسارب الطريق احتفاءً؟ أو آخر لا يتورع عن السباب الفاحش لأقل غضب أو يعطيك نظرة و إشارة التحدي؟ أو من يسرق المياه و الكهرباء و يقول أن الحكومة تسرقه بالفواتير العالية فلم لا يأخذ "حقه" منها؟ ماذا تقول لأخبارٍ عن هتك الأستار و انتشار الملاهي الفاحشة و العربدة و السمر الفج و السكر في مجتمعٍ يُنصِتُ فيه الغالبية لأذان الفجر فتصدمه هذه الأخبار عن عالمٍ لم يعهده و لا يريده؟ وعن الانغماسٍ العجيب في الفوضى التسعيرية في الأسواق و لممارساتٍ في صُلْبِ "المطففين" و فيهِ مَن يعتبرُ عبارةَ "من غشنا ليس منا" وساماً يُفتخر به؟ ماذا تقول و أنتَ تطالعُ أنك دُولياً خامسَ التعساء و ثانيهم عربياً؟
هل هي نظرية المؤامرة أم نظرة المتشائم؟ قد يبدو ذلك علي الصعيد العام للمؤامرة، والشخصي للتشاؤم، لأنني لا أعتقد أن معزوفة الغاز النشاز و موجات البحث عن الخردوات مؤامرةٌ بقدر ما هي خطأٌ فادحٌ ضد الذوق العام يلتقطه الآبهون بهذه الأشياء. فمن المؤكد أن موزع الغاز و جامع السكراب يقومان بعملٍ شريف و مطلوب لكننا في العام الثاني و العشرين للألفية الثانية و نعتقد أن هناك من يستطيع تطوير النداء في الخدمتين رأفةً بنا. لكن باقي الأشياء المذكورة تقع ببند تدهور الأخلاق بالمطلق.
هناك دائماً من لا يرى إلا كل ما هو مُحْبِطٌ للشعور الشخصي و المزاج و التصرف العام. لكن أليسَ من الغريب أن هناك أغلبيةً لا ترى إلا الإحباط مما قد يفسر نتيجة مقياس التعاسة الذي لم نسمع به من قبل. و حتى لو كان حقيقةً علميةً هذا الاستبيان فإنَّ مجرد نشرهِ يبعثُ للتعاسة حتى عند غير التعساء. لكننا لا نتحدث عن التعاسة بل عن ضعف و هوان الأخلاق. ستقول أننا لا يعجبنا العجب و لا الصيام في رجب من نفحاتٍ صارت عزيزةً بدولٍ كثيرة و هي عندنا سهلةٌ يسيرة. و ستقول أن التركيز المواطني هو علي السلبيات دون الإيجابيات فالمواطن يغفلُ أن هناك أمنٌ و استقرارٌ و أن المساجد مفتوحة و أن الأسواق عامرة و الكهرباء و الماء و الغاز والسولار والبنزين كلها مُتاحة دون طوابير و جلبة و شجار و مولدات تهدر في كل شارع. فَلِمَ التعاسة إذاً؟ إنها وسوسة المؤامرة بدون شك التي تجعلنا نركز و نستمع و نهتم للسلبيات و ننسى و نستهين بالإيجابيات.
علي المستوى العام و الشخصي قد يكون هناك تعاسة و مؤامرات و مُفسدين بل لا بد من ذلك فهذه هي الدنيا و لكن هؤلاء المتآمرين لهم من يتابعهم و يُفْسِدُ خططهم. و هم ليسوا همنَّا اليومي و إن كانت إشكالاتهم و قصصهم و صياحهم تغزوا مواقع التواصل كل يوم و تصبحُ حديث المجتمع و دردشته. الهم اليومي عندنا هو أن شيئاً من قبيل التنازل المتدرج في الأخلاقيات يصيبُ المجتمع و يتصاعد معه منحنى الإحباط و التشاؤم. قديماً قالوا أن الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت الأخلاق ذهبت الأمم، و ها نحن نتكلم عن الأخلاق فلا نذكر إلا صعوبة التمسك بها. بل يحل محلها ضيق الصدرعن التسامح و اشتداد الظن بالسوء من الغير و الترصد للخطأ و التشهير به دون الستر عنه و استهانة التفاهة و الفحش، وهذا الأخير مصيبةٌ كُبرى. أمراضٌ فردية و جامعة تجعلنا متوترين متوجسين تُعساء و حزانى. إنها ظاهرةٌ واضحةٌ لمن يريد أن يراها و تدعو للتوقف عندها لمن يريد التخفيف منها.