أُغنيتان على هدب طبيعة قاسية
سليمان القبيلات
09-07-2007 03:00 AM
... في امتزاجه بصوت راع شاب كان يردد اهزوجة بدوية معتقة جاء صوت فيروز الشجي "يا جبل اللي بعيد خلفك حبايبنا" ذات صباح راسما صورة ساحرة لحالة توحد تماهت مع عناق ابدي لجبلين في احتفائهما بسيل الهيدان قبل انعطافه الحاد صوب حمام "قصيب". هو تماه استفز تساؤلا عن سر هذا التوحد بين طبيعة ابدعت في تشكيل معالمها وموسيقى توهجت فيها مشاعر لذة ابتكار جاذبية كتلك التي يستفزها نص جميل في دواخلنا.ولانها غير ماكرة في فرحها وتشكلها تعقد الطبيعة معك صفقة وتهديك باسراف فضاءات للتحليق والغوص في مكنونات غناء اليوم وتفسير واقعه الرديء، فتستحضر الذاكرة "زرياب"
الذي قدّّ من الدهشة نصا ووترا ومن حيزه البغدادي والاندلسي تقنيات جابت تضاريس الروح العربية في فضائها الانساني. تستعيد عبدو الحامولي وسيد درويش والقصبجي وبليغ حمدي والمدرسة الكلثومية وثورة فيروز والرحابنة وليس انتهاء بصباح فخري.
تعود الى زرياب كمعلم اول فتجده يلتقط الشعور في لحظته الحاسمة فيحيله عنوانا موسيقيا أسّس في الموشح بناء أبديا ما يزال يسلب الروح ويُجليها.
وباعتباره ذاتا مسكونة بجديد يفتقده فضاؤنا اتخذ زرياب في موسيقاه عظم النسر مضرابا لعوده بديلا للخشب، في تجديد اسبغ هويته الخاصة وجاذبيته عليه.
لم يدر في خلد زرياب ان ذاكرة ارتفع في صوغها الى الذرى ستتعرض لانحسارات وتآكل عبر الزمن ليصبح شأنها ووجودها موضع تساؤل: ما اذا كانت قادرة على استعادة مكانتها وسط هذا الفضاء السمعي المزدحم بسقط الكلم والمؤذي من الاصوات، في اجتماع طويل الامد لعناصر هبطت عبر العقود بالذائقة العامة في بيئة ثقافية تجعل التردي والضحالة مستشريين، والسقم والسطحية بيانا للشهرة والترويج.
لا يغرف ما يسمى فنا وغناء اليوم من متخيل يتيح تمظهر الحلم في هيئة اغنية مليئة بالحياة والمعاني ترصد الانسان وتنهض بسمعه وذائقته، رغم ان هناك "طفرة" وتكاثرا غير طبيعيين لمؤدي ما يسمى غناء لا يمكن في اي حال ان يكون تجليا لخطاب جمالي سويته عالية. ومن بين هذا الكم الهائل من "الاغاني" و "مؤدييها" لا نعثر على جرأة في اجتراح الجديد حتى بتنا تحت وطأة هذا التردي اسرى قناعة اننا في مجتمع لا يمكن ان يكون نتاجه مناقضا لوضاعة خطابه الثقافي السائد.
كان مجتمعنا برغم وصفه محافظاً في بيئاته البدوية والريفية منتجا لغناء وحداء جميلين وعميقين انسانياً وقيمياً. فالاغنية كضرب من الفن تعمق انسانية الناس وتوطد علاقاتهم بمداعبتها احلامهم ومخاطبتها المكبوت في دواخلهم، وبذا تغدو فنا راقيا.
ولأن الاغنية نهر يشق طريقه عبر الروح، فهي تمضي في نسج علاقاتها وحبكها مع الناس من دون استئذان، ما يجعل الاهتمام بالراقي من الفن مكونا عضويا لتشكل الوعي الوطني.
بيد ان البون الشاسع بين اغنية الامس واليوم يفسره خلود الاولى واشغالها الذاكرة الجمعية، في حين تبدو "اغنية" اليوم نتاجا لتسطيح ممنهج يكمل دورة الانهاك الثقافي للناس المسكونين في هم عيشهم ونبذهم حتى للقليل من الجد.
وفي مقارنة سريعة للاغنيتين تبدو القديمة أشد امتلاء بالحياة وانشدادا للواقع في متخيله الحلمي وهو ما يجعلها مؤثرة على نحو فارق في تشكيل المتعة عبر رصدها التجلي الانساني في تمظهره اجتماعيا وسيكولوجيا، أو في تبشيرها بالجديد الدافق بالحياة. كانت الاغنية القديمة جريئة في التناول، متجاوزةً فنيا، وعميقة في استيلاد أسئلة ذات مدلولات اجتماعية.
و رغم ان هناك جوعا وحاجة ملحين لحداثة تتقدم باغنية تشبع الروح وتفاعلها العاطفي تبدو الاغنية السائدة متخمة بالازعاج فقيرة المعنى، فضلا عن انه لا تظهر في الافق مقومات لاستيلاد غناء راق بتطويع الانفجار المعرفي والتقني والاطلاع على الآخر واستعادة الذاكرة لتعزيز حضور الغناء في حياتنا.
ان الاغنية الحقيقية تنأى عن تجميل القبح والسائد الاجتماعي والسياسي، تقرأه في مسعى لتفسيره وهي في ذلك تؤدي دورا تنويريا لا يقدس الصورة الاجتماعية والسياسية المحصنة في أذهاننا.