الأجندة المتخمة للإصلاح الاقتصادي لا يجب أن تصرف النظر عن مجموعة من المعطيات التي تشكل الأولويات غير القابلة للتأجيل بناء على ظروف عالمية تفرض نفسها بقوة، والأمن الغذائي في مقدمتها، خاصة بعد التقارير المتتابعة التي تحذر من وجود أزمات طويلة المدى في الأفق.
يحتل الأردن المرتبة الثالثة والخمسين من بين 136 دولة على مستوى قدرته على تلبية الاحتياجات الغذائية الصحية والسليمة لمواطنيها، والمرتبة ليست مقلقة، إلا أن مقارنتها بالوضع الذي أظهره مؤشر الجوع العالمي نفسه في عامي 2014 و2007 يؤشر أننا نمضي في الطريق الخاطئ على هذا الصعيد.
الجوع مؤشر متباين، ومدخلاته معقدة، والأردن ما زال في المنطقة الآمنة نسبياً، وللجوع مجموعة من القصص نستوقف منها ثلاثة مشاهد لنعرف أن ما زال أمامنا الوقت المناسب.
المشهد الأول، من تركيا، يوم أثيرت أزمة الموز التي استفز خلالها مجموعة غير معبرة من اللاجئين السوريين بتصوير استهلاكهم المفرط للموز بعد شكوى مواطن تركي من عدم قدرته على شراء الموز لعائلته وربطه لذلك بأزمة اللجوء في بلاده، وهو الأمر الذي اعتبره الأتراك مهيناً في ظل التضخم الذي ضرب عملتهم وأثره الكبير على أسعار المواد الغذائي.
المشهد الآخر، من بريطانيا، وفي فيلم ترويجي لحزب العمال، يحكي أحد الأطفال عن ذهابه للمدرسة جائعاً لأن الطعام الذي توفره أسرته غير كافٍ، أما المشهد الثالث، فمن مصر، ورقبة الدجاجة التي طلبتها سيدة من البائع ورفضه في المقابل، وما أطلقه ذلك من حديث واسع عن أزمة في توفير الدواجن التي تشكل الجزء الأوسع من البروتين الحيواني المعروض في السوق.
هذه المشاهد ربما يحكي البعض عن مشاهد تقاربها على المستوى المحلي، ولكن إلى اليوم، وباستثناء أزمة الزيوت قبل بضعة أشهر، فليس ثمة مشكلة في المعروض والتوريد، وما زالت الحكومة تمتلك مجموعة مهمة من الأدوات مثل الاعفاءات وتحديد السقوف السعرية بالضغط على هوامش الأرباح وما إلى ذلك.
هل نطمئن؟ ربما يشكل الاطمئنان أسوأ الخيارات، فأزمة الغذاء في العالم بدأت منذ سنوات، والحرب في أوكرانيا مؤثر إضافي وليست المحرك الرئيسي الذي يتمثل في الظروف المناخية وزيادة معدلات الاستهلاك الصينية للغذاء مدفوعة بالتحسن الاقتصادي المطرد، ولا يتوقع أن تحدث ظروف ومستجدات تعيد العجلة إلى الوراء، والمنطقي أن تتعمق الأزمة وألا تستثني أحداً.
اللافت في التقرير، أن لبنان، في وسط كل أزماتها الاقتصادية والمالية، وعدم قدرتها على توفير العملة الصعبة للاستيراد تسبق الأردن في قدرتها على توفير الغذاء والتضخم المرتفع في الأسعار، تحظى بترتيب أفضل قليلاً من الأردن، وبتأمل الحالة اللبنانية نجد أن مجتمعات القرى أو الضيع، هي التي تمكن من توفير الغذاء لأهلها بصورة مناسبة، وتدعيم الاحتياجات في المدن، وهو الأمر الذي نفتقده على المستوى الأردني بعد تفتت الملكيات الزراعية والأداء غير الاستراتيجي لوزارات الزراعة المتعاقبة، وطبيعة التغيرات في الهياكل الاجتماعية.
يحكم منطق التحدي والاستجابة عقلية الإدارة منذ عقود من الزمن، إلا أنه ليس كافياً، والاستجابة التي يمكن من خلالها تقييم الأداء لا يمكن أن تحل مكان ما نحتاجه من مبادرة في ملف خطير، ويدفع ذلك للتساؤل حول خطوات الحكومة في ملف الأمن الغذائي وما يتطلبه من اجراءات على مستوى الزراعة واستكشاف أسواق التوريد ودراسة الأعباء الضريبية والتكاليف في المدى البعيد.
ربما لا يشعر أعضاء الحكومة بناء على أوضاعهم المالية بأن أزمة تتحرك وتتمدد داخل أطباق الطعام أمامهم، ولكن هذه الأطباق تحمل شهادتها على ما يحدث في بيوت أردنية كثيرة تستطيع ربات المنازل شرح تفاصيلها من تجوالهن بين بائعي الخضراوات والمواد الغذائية المختلفة، وإدراكهن لحاجات أبنائهن من مواد غذائية من أجل النمو الصحي جسدياً وذهنياً، والأفضل أن نستمع لهذه الفئة بدلاً من أن تضج بالشكوى لإنتاج مشاهد أردنية لا نرغب ولا نتمنى أن نشاهدها يوماً.
الرأي