لماذا تحرف روسيا التاريخ باستمرار؟
ارشيد النعيمات
10-10-2022 10:29 PM
لن أنسى ذاك اليوم الذي قال فيه دبلوماسي روسي على مسمعي: "أعطاهم خروتشوف القرم بشكل غير قانوني، وها نحن نستعيدها". كان هذا بعد الاحتلال الروسي للقرم الأوكراني ببضعة أيام.
استغربت أن الكلام صدر من دبلوماسي روسي! كونه أكثر من يجب أن يعلم أن القرم لم يكن منحة غير قانونية من خروتشوف، بل قانوني وبموافقة روسيا السوفيتية وأوكرانيا السوفيتية وفقاً للدستور السوفييتي لعام 1936، والذي نصت فيه المادة 18 على أن "لا يجوز تغيير أراضي جمهوريات الاتحاد دون موافقتها". حتى أن السياسي الفنلندي السوفيتي أوتو كوسينين تفاخر بأنه "فقط في بلدنا (الاتحاد السوفيتي) يمكن أن يتم البت في القضايا ذات الأهمية القصوى مثل النقل الإقليمي للأقاليم إلى جمهورية معينة بدون أي صعوبات". كما وافقت روسيا صراحةً على حدود أوكرانيا لعام 1991 في اتفاقيات بيلوفيج في كانون الأول 1991 (الاتفاقيات التي عجلت بتفكك الاتحاد السوفيتي).
في نفس الفترة تلك، أشار أحد خريجي الجامعات الروسية من العرب إلى أن خروتشوف أوكراني الأصل لذلك نقل القرم إلى أوكرانيا.
وهذا أيضاً كلام عارٍ من الصحة! فقد أكدت رادا نيكيتيتشنا خروتشوفا (ابنة الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف) في لقاء صحفي مع الصحفية الروسية ستانيسلافا سيرغييفنا عام 2014 أن أباها "روسي حتى النخاع"، وأن أمها (نينا بيتروفنا كوخارتشوك) أوكرانية الأب والأم.
آلاف من مثل هذه التلفيقات والإدعاءات لوحظت في عام 2014 بعد الاحتلال الروسي للقرم. فقد امتلأ الفضاء المعلوماتي في تلك الفترة بالعديد من القصص التي يُزعم أنها تثبت أن شبه جزيرة القرم تنتمي تاريخياً إلى روسيا. أو القول بأن الأوكرانيين والروس هم "شعب واحد".
ولم أستغرب عندما اكتشفت أن الكرملين هو من يقف وراء كل هذه التلفيقات في حملة واسعة على عدة جبهات لتشويه وتزييف الحقائق ليبرروا إجرامهم.
لم أستغرب لأن صناعة الأساطير السياسية والتزوير الصريح للتاريخ هو أحد السمات المميزة لروسيا الحالية؛ فهو ليس شيئاً فريداً بالنسبة لنظام بوتين الإجرامي، بل مجرد استمرار للسياسات الإمبريالية التي دامت قروناً منذ القيصرية الروسية مروراً بالإمبراطورية الروسية، ثم الاتحاد السوفيتي، فروسيا الحالية. الكرملين معروف -وعلى نطاق واسع- بوقاحته المدهشة وقدرته السخيفة على إختلاق اتهامات لا أساس لها تستند إلى روايات مشكوك فيها للغاية، بل معظمها مجرد تُرّهات وتلفيقات تاريخية غير متراكبة.
هنا تذكرت جملة للكاتب أناتولي بودولسكي، الذي كتب في مقالته "التاريخ الحديث كأداة للتلاعب السياسي": "تستخدم مؤسسات السلطة القصص التاريخية الماضية لتحقيق أهدافها السياسية الحالية أو التكتيكية أو الاستراتيجية".
**نبذة تاريخية
جذور هذه الظاهرة متعمقة في تاريخ روسيا، التي لديها سجل طويل في تزوير الماضي، بدأته بالتزوير الصريح للتاريخ في القرن السادس عشر "لتبييض" سمعة البلاد وتبرير سياساتها العدوانية دائماً.
أحد الأمثلة الأولى هو السجل المصوّر لإيفان الرهيب الذي عاش في القرن السادس عشر. كانت الوثيقة سجلاً اسمياً لروسيا القيصرية من العصور القديمة حتى الوقت الحاضر، ولكن مع "تصحيحات" نظراً للوضع السياسي الحالي. فقد عُدّل السجل المصور بإنتظام اعتماداً على من يحبُ القيصرَ حالياً أو يكرهه.
ومع ذلك، يعتبر هذا أمراً تافه مقارنة بما حدث بعد ذلك خلال القرن الثامن عشر، حيث بدأت الإمبراطورية الروسية في تشكيل "سردها" للتاريخ بنشاط من خلال تقييد الوصول إلى المصادر التاريخية وإنشاء بحث تاريخي جديد "باللهجات الصحيحة". أصبح ذلك نظامياً في عهد كاترين الثانية وخلفائها.
عندما بدأت روسيا تتشكل ككيان إمبريالي تحت حكم القيصر بيتر الأول. ركز عهده على تحديث النظام السياسي المتخلف، وتركيز السلطة في أيدي "المستبد"، وتعزيز موقعه على الساحة الدولية. مع مرور الزمن هذه أصبحت هذه القاعدة تعرف بأسطورة "عظمة" روسيا بعد فترة طويلة من الاضطرابات والتوطيد المضطرب لقيصرية موسكوفي (روسيا القيصرية) خلال القرن السابع عشر. هذا هو أحد الأمثلة على صناعة الأساطير التاريخية الروسية.
في عام 1701 أصدر بطرس الأول مرسوماً -يتعلق بشكل أساسي بالجزء الأوروبي للإمبراطورية- يقضي بمصادرة الآثار المخطوطة للشعوب المستعبدة وتقييد الوصول إليها. وهذا ما منح الحرية بالتلاعب.
على سبيل المثال، كان سجل رادجيفي Radziwill Chronicle يتضمن "حكاية السنين الغابرة". إلا أنه كان يختلف من الناحية الأسلوبية عن آثار الفترة المعنية.
خلال هذه الفترة، أصبح التاريخ أداة سياسية كاملة، تستخدمها الإمبراطورية الروسية بنشاط لتعزيز مصالحها الخاصة وتبرير أفعالها.
بعد عدة انقلابات للقياصرة، اعتلت عرش الإمبراطورية الروسية صوفي فريدريك أوغست فون أنهالت زربست دورنبرغ، المعروفة باسم كاثرين الثانية.
خلال فترة حكمها وسعت الإمبراطورية الروسية حدودها بشن حروب عديدة. استولت على شبه جزيرة القرم وكامل الجزء الجنوبي من أوكرانيا تقريباً، وأجزاء من جورجيا الحديثة ولاتفيا، وقسمت الكومنولث البولندي الليتواني عدة مرات. فأصبح التوسع هو القوة الدافعة وراء المراجعة التاريخية المنهجية.
فهمت كاثرين الثانية التاريخ ليس فقط كعلم عن الماضي. بالنسبة لها، كان أيضاً أداة سياسية مهمة يمكن أن تؤثر على مصير العديد من الأجيال القادمة. وفقاً لوزير خارجيتها ألكسندر خرابوفيتسكي، أمضت كاثرين الكثير من الوقت في البحث ومناقشة مختلف الوثائق التاريخية لإنشاء تاريخ شامل للإمبراطورية الروسية.
في 4 ديسمبر 1783 ، أصدرت كاثرين الثانية مرسوماً لإنشاء "لجنة لتدوين الملاحظات حول التاريخ القديم ، ومعظمها من روسيا" برئاسة الكونت أندريه شوفالوف. كان من المقرر أن تحقق اللجنة رؤية كاثرين للتاريخ.
**ما حاجة روسيا لتحريف وتزوير التاريخ؟
أن الشخص الذي لا يتذكر شيئاً من تاريخ شعبه أو بلده أو عائلته ينقطع عنهم ويصبح أعزلاً تماماً ضد التلاعب. هذا شرط أساسي للإعدادات المحتملة واستبدال الموضوع. إذا نسى الناس الواقع بسرعة، عندئذ يمكن أن يُساء تفسير أي مشكلة خارج سياق العالم الحقيقي.
وهذا يفسر بشكل شامل لماذا تحتاج الإمبراطورية الروسية إلى "تاريخ صحيح" للحاضر والمستقبل.
كوحدة مفاهيمية، لا تستند الدولة وشعبها بشكل مباشر إلى الحاضر فحسب، بل على الماضي أيضاً كمجموعة من الأدلة الوثائقية. من منظور عالمي، يحدد الماضي "من نحن" و "إلى أين نتجه"، أي أن التاريخ يوطد ويحدد.
لهذا السبب تلعب استمرارية الماضي دوراً أساسياً في الفضاء السياسي. يحدد الماضي سمعة الدولة ويخلق خلفية معلوماتية ذات صلة وتعطي معنى (أو لوناً) لأفعالها. هذا ما أسماه جورج أورويل "السيطرة على الحاضر".
ومع ذلك، هناك حاجة إلى أدلة وثائقية مناسبة للحصول على استمرارية التاريخ من الماضي إلى الحاضر.
لم يكن لدى الدولة الروسية آثار تاريخية ترضي طموحاتها الإمبراطورية. ولهذا السبب أنشأت كاثرين الثانية "لجنة لتدوين الملاحظات" في عام 1783. وضع غيرهارد ميللر الأساس لعمل اللجنة من خلال جمع العديد من المعالم التاريخية من سيبيريا ومنطقة الفولغا ثم تشكيل أرشيف موسكوفي الرئيسي.
قبل ذلك في عام 1790 كانت كاثرين تنوي أن تطلب من سيناك دي ميليان -وهو مسؤول فر من فرنسا زمن الثورة- كتابة تاريخ روسيا في القرن الثامن عشر، لا سيما في عهد كاثرين.
في هذا السياق، يجب أن نذكر فاسيلي تاتيشيف وكتابه "التاريخ الروسي" الذي نُشر لأول مرة عام 1768 (ساهم أغسطس شلوزر -الذي أثرت أعماله في رؤية كاثرين للتاريخ- في نشر عمل تاتيشيف).
كان تاتيشيف يهدف إلى تجميع التسلسل الزمني الشامل للبلد (السجل الموحد) باستخدام جميع المصادر الممكنة. وفقاً لتاتيشيف، قام فقط بنسخ نصوص من مصادر مختلفة في وثيقة واحدة.
ومع ذلك، تثار أسئلة كثيرة حول عمله مع المصادر؛ فقد بالغ تاتيشيف في المفارقات التاريخية واستخدام الأساليب الشبيهة بالروسية القديمة والتي عفا عليها الزمن، والتي غالباً ما كانت تشير إلى اختراعات المؤلف.
ما الخطأ في التاريخ الروسي من وجهة نظر كاثرين الثانية؟
كان لكاثرين الثانية هدفين من إعادة كتابة التاريخ
الهدف الأول: كانت هناك حاجة ملحة "لتبييض" أحداث الماضي الغامضة. وهنا الحديث عن ارتباط جزء كبير من التاريخ الروسي من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر بإمبراطورية المغول، وما نتج عنها من سوء توثيق التاريخ.
على سبيل المثال، لعب ألكسندر نيفسكي دوراً حاسماً في خضوع دوقية موسكو الكبرى لمدة 240 عاماً للمغول. أشادت روسيا القيصرية بالمغول خان وقاتلوا إلى جانبهم في حملات عسكرية. يبدو هذا الارتباط مخجلاً بالنسبة إلى "دولة أوروبية تقدمية" اسمياً. وبسبب ذلك تم اختراع قصة عن "نير المغول". كانت مجموعة غيرهارد ميللر للآثار التاريخية من منطقة الفولغا مفيدة لـ "تصحيح" السرد.
على عكس فرنسا والنمسا والمجر وإمارة ليتوانيا وبريطانيا، لم يكن للدولة الروسية "أساس قديم عظيم" من شأنه أن يضاف إلى قوة الإمبراطورية.
كانت روس الكييفية حلاً مناسباً للغاية في هذا الصدد. ذكر السجل المصور لإيفان الرهيب وجود علاقة بين روسيا القيصرية وروس الكييفية، ولكن دون تقديم أدلة كافية. فأصبحت إمارة سوزدال تُسمى سوزدال روس، وزُعم أن موسكو تأسست بمشاركة أمراء كييف. أشار ياروسلاف داشكيفيتش في مقالته بعنوان "كيف استحوذت موسكوفي على تاريخ روس الكييفية" إلى أن موسكو لم تُذكر إلا في التعداد السكاني الثالث للقبيلة الذهبية (1272) ، ولكن ليس في التعداد السكاني الأول (1237-1238) أو الثاني (1254-1259).
والهدف الثاني هو تقديم مبررات اسمية لسياساتها التوسعية العدوانية ومطالباتها الإقليمية.
يبدو أن "الانتماء التاريخي" لأراضي معينة هو أفضل حجة لسخافة "لأنني أريد ذلك".
(((هنا أدعوكم للتفكير في الخطاب الروسي في عام 2014 عندما احتلوا القرم))).
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يؤدي تدريس التاريخ "المصحح" للأجيال القادمة إلى خنق حركات التحرر الوطني للشعوب المستعبدة (على وجه الخصوص الشعب الأوكراني). وهنا يكمن أصل أسطورة "أمة واحدة" وغيرها من أفكار "التحرير".
أكملت اللجنة العمل رسمياً في عام 1792. وقد نجحوا في الغالب في تصور المجالات الرئيسية للتاريخ الروسي في سرد إمبراطوري. وقد وفر ذلك أرضاً خصبة لمزيد من التلاعب بالتاريخ في القرنين التاسع عشر والعشرين.