رغم إدانة شيخ الازهر أحمد الطيب والبابا شنودة محاولات إثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، سواء بالإساءة للمقدسات, أو بالانتقاص من حقوق المواطنة التي يستوي فيها المواطنون جميعاً بغير تفرقة أو تمييز, وتأكيدهما أن المصريين شعب واحد في وطن واحد, ودعوتهم للجميع للالتزام بالوحدة الوطنية, وتأكيد ثقتهما في صوت العقل والضمير وشواهد التاريخ المشترك لوأد محاولات الفتنة وإخماد شرورها, ورغم أن الكنيسة المصرية أصدرت تعميما على الأقباط الذين يخضعون لسلطتها بمنع التظاهر داخل ساحات الكاتدرائية, منعاً لإثارة الرأي العام المصري, فان الفتنة الدينية تواصل تنقلها بين المدن المصرية, على شكل مظاهرات يقودها متطرفون تندد بالآخر, وتعتبره مواطناً من الدرجة الثانية.
بعد صلاة الجمعة الماضية, انطلقت في الاسكندرية مظاهرة حاشدة, للمطالبة بمقاطعة الأقباط ومصالحهم في مصر, احتجاجا على استمرار اختفاء «كاميليا شحاتة» القبطية التي كانت زوجة أحد الكهنة, وتتهم الكنيسة باحتجازها بعد اعتناقها الإسلام, ورغم أن الكثير من المواقع نشرت فيديو لكاميليا تعلن فيه تمسكها بديانتها الاصلية وبالكنيسة القبطية, فان المتظاهرين لايعترفون بذلك, ويطالبون بحريتها في اعتناق ديانتها, ويتهمون أجهزة الأمن بالوقوف وراء إعادتها للكنيسة ولزوجها رغماً عنها, مستنكرين موقف الأزهر والسلطات المصرية وتعاملها مع الأزمة, ومظاهرة الاسكندرية لم تكن الوحيدة, لكنها كانت الاخيرة, فقد سبقتها عدة مدن بمظاهرات، تحتج على ما وصف بتساهل السلطات الأمنية في تسليم زوجة الكاهن, واحتجازها في أحد الأديرة للتراجع عن اعتناقها الإسلام . تظاهرة الاسكندرية كانت مناسبة للليبراليين للدعوة لإصدار قانون يكفل حق المواطنين في اختيار وتعديل معتقداتهم بحرية، على أن ينظم القانون إجراءات تنفيذ ذلك بدقة، بالإضافة إلى ضرورة وجود إجراءات عقابية ضد كل فرد أو جماعة تمارس أي شكل من أشكال القسر لدفع المواطنين للانتماء لعقيدة بعينها, أو تحول دون حقهم في الانتماء لعقيدة يختارونها, في حين دعا الاسلاميون في نفس المظاهرة لحماية الدين الإسلامي والجهاد من أجله، ودعوا إلى مقاطعة المصالح الاقتصادية للأقباط.
المشرعون المصريون لم يقفوا مكتوفي الايدي, وطالبوا بتشريع يجرم التظاهر داخل المساجد والكنائس, وثمنوا خطوة الكنيسة بمنع التظاهرات في الكنائس, واعتبر بعض الناشطين ذلك دعوة للدولة لتتخذ قراراً مماثلاً بمنع تظاهرات الإسلاميين, خاصة وأن قصة كاميليا التي تكاد مع تصريحات الأنبا بيشوي حول القرآن تثير فتنة في بلد كان شعاره دائماً (الدين لله والوطن للجميع) في حين بررت الكنيسة قرارها بأن الكنائس مكان للعبادة، وهذا هو الهدف الرئيس للقرار، وليس منعاً لمبررات التظاهر ضدها كما يقول البعض.
الفتنة المذهبية والطائفية والدينية والعرقية تتنقل في أرجاء العالم العربي مثل ساعي البريد, ولا يستطيع عاقل إغماض عينيه عنها, وهي تستدعي الدم في العراق ولبنان بين أبناء الدين الواحد وإن اختلفت المذاهب, وفي مصر وإن اختلفت الديانة, وفي السودان والمغرب وإن اختلف العرق والاثنية, والمهم ملاحظة أن هذه الاختلافات ولو كانت السبب الظاهر, فانها ليست أكثر من أدوات سياسية يجري تطويعها لتنفيذ مآرب لا صلة لها بالدين أو المذهب أو العرق, رغم تبنيها من أدوات تطلق على ذواتها أسماء وهمية كرجل الدين أو العالم أو الكاهن, وقد تقوم هذه الادوات باضرام نار الفتنة دون إدراك الاهداف الكامنة خلفها.
فتنة كاميليا المرتدة عن المسيحية الى الاسلام, وعن الإسلام الى النصرانية, نموذج لغباء المشتغلين بها بقصد أو بغير قصد.
الراي.