جلست بجانبي على الكرسي الخشبي في ردهة المحكمة ، ودون استئذان بدأت بالحديث ، وهي تنفث ما بداخلها ، وتبث همومها ، " خمنوا الدار بألفين نيره ، وهي تساوي فوق ذلك بعشرة الأف ، خليهم بلكي يرضوا نسوانهم ".
نظرت إليها ، وقبل أن أنطق بكلمة واصلت حديثها " عمرها ما حننت قلب أخوتي علينا نحن بناتها ، كانت - الله يسهل عليها - لو يطلع بأيدها تأخذ نور عيونا وتقدمها الهم ".
وأخذت تكمل حديثها وهذه المرة وكأنها اتجهت في الحديث عن والدها : مات - ريت عظامه للجنة – وترك اشي وشويات ، وبعدها طمع ابو العيال - ما تركنا بحسرتنا - وطلب توكيل مني ، ولما رفضت ، طلقني ، بعد اربعين عاما من الزواج وثمانية أبناء .
ظلت هذه المرأة تتحدث عن وجع الايام وقسوة الماضي وحسرة الحاضر .... "عمري ستين سنه يا بنيتي ، وما بدي أحمل اولادي هموم أكبر من همهم ، عمرت بيت صغير في طرف أرض ابوي ، لكن المرأة لا تترك المرأة بحالها ، خربت وزنت الزنانه"، وظلت تزن : اختك حفرت وبعدين أسست وبنت بيت .. وظلت تفسد الكنه ، حتى رفع اخوتي دعوى ضدي ، لأن الأرض لم يزل عنها الشيوع بعد ، وطلع قرار القاضي ؛ بتكفيت البيت على الأرض المشارع ، والتعويض بعد ما قدروه بثمن بخس ،... أبخس من الثمن الذي باعني به أخوتي ومن قبلهم أبو العيال .
أمسكت ورقة الحكم ، وقرأتها لي ، وأكملت حديثها : لن أسكت هذه المرة ،كما سكتُ ، عندما أرغمني والدي على ترك المدرسة ، رغم تفوقي في الدراسة ، وزوجني خوفا عليَ وحرصا على تأمين مستقبلي.
ما زلت انصت اليها وكأنها تريد أن تفرغ ما بداخلها وتابعت تقول : سأستأنف الحكم ، كما قررتُ أن أستأنفَ حياتي بعد طلاقي ، وأنا في هذا العمر.
وفي لحظة صمت ، خرج صوت ساعي محكمة جنوب عمان ينادي بأعلى صوته على رقم قضيتها ، وتبعها رقم قضيتي الحقوقية ، التي ما زالت منظورة أمام المحاكم ، منذ أكثر من ثلاث سنوات عن حادث سير تعرضت له اثناء سعيي وراء مهنة المتاعب .
نهضنا معا ، وذهبت كل واحدة منا إلى غرفة القاضي ، الذي ينظر في قضيتها ، وأنا أفكر في جوانب ما حدثتني به هذه المرأة ، التي تعرضت للظلم من زوجها ، ومن قبله اخوانها، ثم واجهت التمييز من والدتها .
ذهبتُ بتفكيري قليلا ، وأنا أحلل تلك النظرة ، التي ما زالت تعشعش في أركان حياتنا تجاه المرأة ، وتسلب انسانيتها وحقوقها ، وأقف عند أسبابها ، وأتساءل لماذا هذا الظلم الذي تعاني منه المرأة وتواجهه في حياتها ،وكله يتناقض مع التكريم الالهي الذي حظيت به من رب العباد .
ولدى خروجي من غرفة القاضي ، أخذت في البحث عنها في ردهات المحكمة ، فلم أعثر عليها، فقد أنصهرت بين الجموع ، نظرت من حولي فوجدت أن هناك اكثر من أم عقاب .
Jaradat63@yahoo.com