كان ذلك قبل عشر سنوات، أقلّ أو أكثر قليلاً، حين بلغني أنّ الحاج محمود سعيد في المستشفى، فكتبت في هذه الزاوية إنّ الأمر لا يعدو كونه مزحة من الرجل، فبعد سنوات وسنوات من معرفته اللصيقة، لا أظنّ أنّ المرض يمكن أن يلاعبه، لأنّه يعرف أنّه خاسر في مطلق الأحوال، وقفلت بالقول: هذا مرض سياسي، لأنّ الحاج يريد أن يختبر محبته عند الناس، ولهذا فهي لعبة لن تنطلي عليّ، ولم أعوده في أيّ مستشفى.
صباحاً، باكراً، كانت ضحكته تأتيني كعادتها، وبعد شتيمتين محببتين أو أكثر، قال: خذ معك أبو عصام. وأبو عصام هو عبد الرؤوف الروابدة، الذي يسرق القفشة من العفاريت، وهذه المرّة كانت ضحكته تأتيني قبل صوته، ثم قال: كنت أظنّ أنّني أكثر من عرف الحاج، ولكنّك سبقتني، فلا هو مريض ولا إقترب المرض منه! وقال أكثر ممّا يمكن أن يُنشر، اليوم على الأقلّ.
وأحمد سلامه هو الذي عرّفني على محمود سعيد، وكانت تلك من فضائله، والحاج هو الذي عرّفني على أبي عصام وتلك أوّل الفضائل، التي تتالت وتتالت، ففي مزرعة عين الباشا كّنّا في بداية الثمانينيات نختار من سيكون ضيف الليل من السياسيين بعد الضحى، وهناك عرفنا عن قرب غالبيتهم، ولو كنّا نحمل مسجّلات لحصلنا على تاريخ الأردن وفلسطين دون أدنى مبالغة.
وفي يوم أجرينا مع الحاج مقابلة صحافية، وكان ذلك قبل ربع قرن، فتركنا الصداقة جانباً وخضنا في الذكريات، ذكرياته، لنحصل على ما أعادنا إلى أيام الثلاثينيات والأربعينيات في يافا، والخمسينيات والستينيات في مخيم عقبة جبر في أريحا، والسبعينيات والثمانينيات في البقعة، وقبل أيام يهاتفني الحاج دون سابق إنذار ليسبّني كعادته، ويبارك لي بما اعتبره له وليس لي، ولأقول له: إذن، سنعيد الكرّة، أنا أقابلك لتستعيد الذكريات، وتتحدّث عن كلّ شيئ، وتقدّم روايتك للدنيا في مشروع كتاب، واتفقنا على اللقاء وعلى صحبتنا العتيقة الذين سنجمعهم على "زرب" في عين الباشا.
قبل قليل، يهاتفني صديق، ويقول: مات محمود سعيد. أسكت للحظة، ثمّ أسكت للحظات، ودقائق، وساعات، وأحاول أن أفهم: هل يمكن أن يموت الحاج؟ هو موت سياسي بالضرورة، فهي مناورة من سماحته يحاول أن يعرف من خلالها حجم الحبّ الذي ما زال الناس يحتفظون به له، في قلوبهم.