كثيراً ما نحتال على أنفسنا فنسمي الأشياء بغير أسمائها، فالتجاعيد العرضية التي تتوالد على جوانب العيون، لا نسميها خطوط الزمن أو خثرات العمر!، بل ندعوها من باب التفاؤل بخطوط الضحك وبصماته!!، رغم أن كثيراً من تلك الوجوه قد أدمنها العبوس ولازمها البكاء لأمد مديد!!. وبذات الخطوط وبصماتها وتداعياتها، سيحلو للفقير المتأرجح بخط وهمي يرتفع سريعاً نحو هاوية لا قعر لها!، سيحلو له أن يقول والله لو كان الفقر خط بارليف، أو خط استواء لمحوته بلعابي وأصابعي، لكن الفقر أكثر من خط، وأكبر أن يمحى ويقرض حتى بالأسنان!!، ومع ذلك تعجبنا الخطوط، فلا يحلو لنا تصنيف فقرائنا ضمن عدد كبير منها فحسب، بل شاط الأمر إلى وضع طبقات لهم تبعاً لذلك: فهناك فقراء مكتفون، وفقراء مدبرون، وصنف أخير هم الفقراء المحتاجون، وإذا تفاءلنا بهذه التصانيف المبهجة للفقر والفقراء، في محاولة تبدو شبه بائسة للضحك على ذقن الحقيقة وشاربها، فكل فقرائنا في الفقر شرق!!، حيث لا أهمية للجهات وللجيوب والثقوب، ما دام كثيرون يرقصون وجعاً على قعقعة أمعائهم الخاوية!!.
هناك فقراء مستورون، لا يعلم بهم إلا الله، إذ يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وهؤلاء قلة صابرون بانتظار الفرج، أو كاظمون على مضض، لكن بعض الفقراء الشعبيين، لا يحبون تسميات الحكومة ومصنفاتها، بخصوص الفقر وخطوطه الطولية والعرضية، فالكثير منهم يعجبهم أن يشبهوا حالاتهم الفقرية بمصطلحات سوقية متداولة، لها وقعها الخاص ونكهتها المميزة، فما زالوا كثيرون يتعاطون مصطلح (على الجنط)، لوصف أوضاعهم الزاحفة، أي أن الحالة(مبنشرة)، ولا قدرة لهم على مواصلة المسير، حتى ولو جرا أو سحباً!!، ومن هذه الزاوية قد يجد أحد الأذكياء الفرصة سانحة ليتهكم: إن الذي يمتلك سيارة، حتى لو كانت على الجنط، لا يستحق أن يحظى بلقب فقير!!.
ومن الفقراء من يصنف نفسه من الذين إذا ضربتهم في الجدار فلن (يرنون)، أي لن يصدر لاصطدامهم صوت، حتى لو كان هسهسة كهسهسة النملة؛ فجيوبهم خالية من أي قرش أو معدن، وهنا يصطاد بعض النبهاء الحالة ويقول: يحق لهم أن لا يرنون، فكل عملتهم ورق بفئات عليا!، أو بطاقات بنكية!!، أو فواتير مستحقة الدفع!!.
قديما كان الفقراء يصفون فقرهم بلغة شاعرية، وصور محملة بكثير من الخيال، فكان شائعا أن فلاناً يطحن على الديك!!، أي أنه ولشدة فقره، فالقمح الذي يأخذه إلى المطحنة يحمله الديك لقلته، بدل أن يحمله بغل أو جحش، وقد تنبثق من هذا التصنيف اللطيف حالة شديدة التعبير، عندما يعلن أحدهم أنه اضطر لبيع ديكه الهزيل الذي كان يطحن عليه!!.
وسيكون مواتيا ذكر نظرية الحذاء والجورب: فالمستور الذي كان يمني نفسه شراء جورب جديد، قد باع الحذاء ليأكل!!، لكن بصرف النظر عن التصنيفات الشعبية أو الحكومية للفقر والفقراء، فنحن لسنا معنيين بها إلا بالقدر الذي تعنيه طبخة الحجارة الشهية، التي ابتدعها أحدهم ليلهي جوع أولاده، كما في قصص الطفولة التي مللناها!!.
ramzi972@hotmail.com