من الطبيعي إثر التحولات الكبيرة والعميقة التي أصابت مجتمعنا في العقود الأخيرة، وازدياد عدد السكان بشكل لافت وتنوعهم، أن تدخل الجريمة عليه.. وهذه لم تكن يوما في الأردن منظمة، أي وجود عصابات تعمل على الجريمة بشكل "مؤسسي" كما نرى في البلدان الغربية أو بعض بلدان الإقليم، وهي عندنا لا تكاد تتجاوز حدود البلطجة "والزعرنة".
ولكن في الآونة الأخيرة يكاد الأردنيون يصحون كل يوم على نوع جديد من الجرائم البشعة التي تهز الضمير الإنساني، وهي ما أسميه "الجرائم العائلية"، زوج يقتل زوجته أو أب يقتل أبناءه أو إبن يقتل أحد والديه أو إمرأة تحرق زوجها، وهذا يدعو إلى التوقف طويلا أمام هذه الظاهرة التي تشير إلى عطب كبير أصاب قاعدة تماسك المجتمع الأردني على مستوى الرحم.
ولا يأتي أحد ليقول ان الأوضاع الإقتصادية السبب في هذه الظاهرة، فلا يوجد أب طبيعي يقتل أبنائه أو زوجته لضيق اقتصادي أو حتى فقر مدقع، ولا يمكن لزوجة أن تقتل زوجها لأحواله المالية السيئة، في الوضع الطبيعي، فرابطة الدم جعلها الله عز وجل أقوى من كل ظرف أو سبب، وتغلب على كل شر، ولكن العطب الذي أصاب التربية في كل أنواعها لدينا ومناحيها شكل السبب الرئيسي في ذلك، فمجتمعنا شهد تغيرات عميقة ومضطربة ومتناقضة منذ سنوات ولم ينتبه أحد لهذا، واستمر يسير نحو المجهول دون أي تحرك حقيقي لمواجهة هذه التغيرات الخطيرة وارتداداتها السلبية على الناس.
فالإنفجار الذي أصاب العلاقات الإجتماعية لدينا تحت عناوين كثيرة أهمها حرية الفرد المزعومة المنفلتة، نتيجة التنظيرات الفارغة الغريبة على حياتنا وطبيعتها، أعطب كل رابطة كانت الأساس في الحياة الطبيعية التي سادت مجتمعنا منذ نشوئه.
أهملنا التربية الروحية إلى حد بعيد، التي أساسها التثقيف الحقيقي للضوابط الدينية التي تؤكد على قدسية رابطة الدم في الأسرة، كما كان خلو المناهج التربوية من هذا الجانب عاملا مؤثرا في تعميق تفكك المجتمع ووصوله إلى ما وصل إليه من حالة تهدد الإستقرار الحقيقي ، كما فشلت كل المؤسسات الموازية بأن تقوم بواجبها نحو المجتمع ، بل على العكس فإن الكثير منها راح يجدف بعيدا عن المصلحة الوطنية ، وعمل نتيجة ارتباطاته بمرجعيات غريبة عن ثقافتنا دورا مشبوها في ضرب جذور حياتنا الطبيعية ، تحت مسميات عديدة لترسيخ قواعد مشوهة في المجتمع كحجة الحداثة والتغيير !!
المهم إننا اليوم نقف أمام تطور خطير يهدد وجود مجتمعنا واستقراره ويخلخل جذوره ، ولا زلنا حتى اللحظة نحاول العلاج بعيدا عن بؤرة هذه الظاهرة ، ونسندها فقط إلى الأوضاع الإقتصادية الصعبة وهذا أمر مغلوط ، فالسبب كما أشرت يعود إلى الخواء الروحي الذي نعاني منه وبات ينخر في مفاصل حياتنا وأفقد الكثيرين أي رادع لارتكاب جريمتهم ضد أفراد أسرهم ، كما إننا اعتدينا على عادات مجتمعنا وتقاليده الأصيلة فازدريناها ، واستبدلناها بمفاهيم لا تمت لثقافتنا بشيء .
أنظر إلى معظم أسباب الجرائم التي اجتاحت مجتمعنا في الفترة الأخيرة ، تجد أن الإنحلال الخلقي والتفكك الأسري وأسلوب الحياة الشاذ كلها تقف خلف هذه الجرائم التي تشير إلى عمق الخراب الذي أصاب مجتمعنا .
مطلوب اليوم حالة نفير حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا خير في مجتمعنا والعمل بنية صادقة لإعادة بنائه على أسس سليمة كما كان ، وأعادة النظر بأسس التربية والسلوك وتحليل كل جريمة تقع من هذا النوع وتحديد أسبابها والعمل على إيجاد أسس حقيقية لتلافيها ، كما على المؤسسة الدينية الرسمية أن تكون شريكا فاعلا في هذه العملية للوقوف أمام هذا الإنهيار قبل أن يتحول إلى طوفان يغرق الجميع .