"ديكتاتورية" وسائل التواصل الاجتماعي
وليد شنيكات
28-09-2022 02:35 PM
لا شيء يفصل بين حرية التعبير المُطلقة، والعبث بخصوصيات الناس، كلاهما وجهان لعملة واحدة، أو قُل مفسدة مطلقة، قولاً واحداً. شكلت وسائط الاتصال الحديثة على اختلاف أنواعها، عصراً ذهبياً من النادر أن يتكرر، ذلك أنها أتاحت فرصاً غير مسبوقة في التعبير السريع لا يمكن تخيلها، فالمعلومة التي تنبثق الآن بصرف النظر عن أهميتها فإنها تشتعل كالنار في الهشيم خلال ثوانٍ، وتبلغ الآفاق مهما كانت المسافات، بيد أنها قد تُشعل حرائق أيضاً في الجانب الآخر.
كانت حياتنا هادئة هانئة قبل أن تعكرها أنفاس وسائل التواصل الاجتماعي بما تنطوي عليه من قبائح وشرور، وكثيرون خسروا أخلاقهم وفقدوا رصيدهم من الثقة عندما ارتهنوا لهذه "التكنولوجيا السوداء"، وصارت ساحة للصراع والاستقواء، حتى أصبحنا بصدد صِدام في العقليات لدى جيل الإنترنت بعد أن أغرتهم الفكرة والتلذذ في بث الأراجيف والنيل من خصومهم المفترضين من دون رقيب أو حسيب.
ليس بوسع أحد منا اليوم أن يتحرر من "ديكتاتورية" وسائل التواصل الاجتماعي التي تُخضِع الجميع غصباً لحساباتها، فهي أشبه بالأفيون الذي يتمكّن منا دون أن نشعر أو نتفطّن. كلنا يعتبر هذه المخلوقات الإلكترونية جزءاً من شخصيته اليومية وبالتالي لن يستطيع التحرر أو الاستغناء عنها رغم المخاطر التي تتسبب بها، على قاعدة "شر لا بد منه"، ولعمري أن ذلك الخطر بعينه، فالاستقواء بهذه الوسائل لن يعصم أحدا بقدر ما يؤدي إلى الخراب والشواهد كُثر لا سبيل لحصرها.
دخلنا مرحلة خطيرة من التحوّل المجتمعي بعد أن تمكّنت هذه "الآفة" من إعادة رسم شخصياتنا وهوياتنا وصارت ترسم كل تفاصيل حياتنا اليومية. فالعادات والأعراف وكثير من التقاليد تبدلت بعد أن ظلت محصنة رغم كل محاولات التغيير وأدوات طمس الهوية، والأخلاق أيضاً جرى استبدالها بأخرى، فالخطوط الاجتماعية الحمراء التي طالما تباهينا بها أصبحت من المباحات، وصار التعدي عليها شيئاً مألوفاً، وبات الجميع يفكر كيف يجمع المال من خلال "الترندات"، مهما كانت النتائج والأساليب.
لاحظنا في مأساة انهيار عمارة اللويبدة، أنها لم تَسلم من هذه الشعوبية المقيتة. فرغم الألم والحزن الذي لف الجميع شهدنا كيف تمّ تجاهل كل ذلك وأباح البعض لنفسه الحق في أن يُصوّر بهاتفه الذكي جثث الضحايا والمصابين، والاستهانة بأرواح الخَلق فقط لمصلحته الانتهازية التي صارت طبائع الكثيرين، فثقافة التصوير المجاني هذه أصبحت عادة مقلقة ومفزعة وفيها انتهاك صارخ للخصوصيات، وصار واحدنا يمشي في الشارع وهو يشعر أنه مراقَب وعليه ألف ألف رقيب.
تنتعش وسائل التواصل الاجتماعي عادة في الأزمات والأحداث المهمة التي تحوم حولها في بعض الأحيان التأويلات وشيء من علامات الاستفهام بسبب نقص المعلومات ربما، أو خطأ في الإدارة، ويغلب على هذه المنصات لهجة النقد وعدم قبول الرأي الآخر واغتيال الشخصية حتى لو توفرت كامل المعلومات في وقت لاحق، وبالتالي يصبح من الصعب السيطرة على سيل الشائعات التي لا تجد من يدقق وراءها أو يبحث عن حقيقة ما جرى.
في قضايا الوطن هناك تعدٍّ شبه يومي على المرتكزات من قبل تصرّفات قبيحة وهمجية لا تتوافق مع المبادئ الوطنية تعود لمنصات مشهورة، وهذا ربما يستدعي الإسراع في وضع حدٍّ لهذا "التسونامي الإلكتروني" عبر نصوص قانونية رادعة تحدّ من المحتويات غير المنضبطة، وحماية خصوصيات الوطن والناس التي يجري العبث بها صباح مساء من دون رادع قانوني أو أخلاقي.
ولعلها المفارقة هنا. عندما تنبّهت الحكومة إلى أهمية الإيرادات المالية من هذا المواقع والمنصات سارعت إلى دعوة المشاهير إلى تصويب أوضاعهم بتقديم بيانات ضريبية عن مدخولاتهم من هذه المنصات، بينما الفضائح والفظائع التي تُرتكب من قبل أصحاب الحسابات المؤذية يتم غضّ الطرف عنهم ولا تتمّ محاسبتهم، فقط يتمّ الإعلان عن المعلومة الحقيقية عبر منصّة "حقك تعرف"، مع العلم أن الكل يَعرِف ويَحرِف.