يتكشف الصراع الطبقي حول العالم الذي يغرس أنيابه في الطبقات الممحوقة، فالطبقة الوسطى التي كان تجمع طرفي المعادلة خلفت ولا زالت تظهر خللاً كبيرًا باختفائها.
إذ تسبب عصر السرعة في نتاج ثقافة الغنى السريع واستحواذ واحد في المئة من سكان العالم على نصف الثروات، والتفاوت في مستويات الدخل، ما يشكل مادة مثيرة للتحليل العقلاني في الوقت الراهن حيث لم تعد نتاجات مشابهة لعصور الظلام من حروب ومجاعات مقبولة إعلامياً على أقل تقدير.
فالبشرية تشهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أطول فترة من الاستقرار النسبي والرفاهية عبر التاريخ، إذ أسفرت الحرب العالمية الثانية، وحدها عن مقتل 60 مليون إنسان كانوا يمثلون حينها 2،5 في المئة، من تعداد سكان العالم.
وقبلها بسنوات معدودة كانت حصيلة وفيات الحرب العالمية الأولى نحو 16 مليون حالة، إضافة إلى تلك الأوبئة والكوارث الطبيعية، هذا الاستقرار والسلام العالمي المستحدث كان له ثمنه وإن تعددت جوائزه، فبينما عطّل آلية عمل نظرية "مالتس" في السكان، يعطّل نظرية "بيكيتي" في استمرار اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، إلى الحد الذى ينذر بخلل اجتماعي كبير في مختلف دول العالم، سرعان ما يتحول التعبير عنه بصور عنيفة إلى آلية جديدة لإحداث التوازن بين الموارد والسكان.
وهذا ما دعا المخرج الإسباني جالدير جاستيلو ليقدم في رائعته السينمائية The Platform خلاصةً طازجةً للصراع الطبقي في بيئة خصبةٍ من العزلة وانعدام الغاية المعنوية والروحانية حين يحكم الجوع المكان، إذ صور جاستيلو عمله على هيئة سجن مكون من مئات الطبقات، حيث تقدم الوجبات الفاخرة بكميات كبيرة لأولئك الذين ولحسن حظهم تم اختيارهم وبشكل عشوائي ليقيموا في الطبقات العليا، وهو ما لا يمكن ضمانة استمراريته، فيتم استبدالهم بآخرين بعد فترة من الزمن تماماً، كما لا يضمن أحدهم في الواقع احتفاظه بطبقة تؤمن له لقمة سائغة، و على الطبقات السفلى الاكتفاء ببقايا الطعام، التي يخلفها علية القوم!، وهو ما سيكون منطقياً وعادلاً لو اكتفت كل طبقة بحاجتها دون جشع وتركت للآخرين قوت يومهم.
وهذا ما سعى لتحقيقه بطل الفيلم صاحب فِكر دون كيشوت الحالم بتطبيق الفضيلة، بيد أن ذلك جره إلى حتفه في غياب الرغبة الحقيقية لدى الآخرين بتغيير الحال.
وبقدر ما يبدو طرح الفيلم خياليا ومرعبا إلى حد ما حين تعم الفوضى والجريمة عند الطبقات الجائعة في أسفل المنظومة إلى الحد الذي يحلل القتل والنهب، إلا أنه بالتأكيد يحاكي المناخ العام في مجتمعاتنا اليوم ونحن نقف حتماً على عتبة مشهدٍ مفزعٍ من تفشي الطبقية، حين تتراكم الثروات في قطب واحد، ويتراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر، كما يصف ماركس على المستويات المحلية والعالمية، فسنشهد أقطاباً موغلة في القوة و الثراء تقوم على أنقاض أقطاب لم تعي الدرس باكراً واكتفت بالبقايا. هنا ينفرد الاقتصاد الإسلامي بتقديم أسس متكاملة للخروج من عنق الأزمات، ويسعى لاستحداث التوازن ما بين الروح والمادة، بتحقيق الرفاهية للفرد والمجتمع، من خلال تقليص هامش الفروقات في الفرص، و هو ما سينعكس بالضرورة على النسيج الاجتماعي المهدد أمام هذه الصفعة المفاجئة، التي تلقاها العالم ولا نعلم حقاً ما الذي ينتظرنا خلف أسوارها، و في نظرة أكثر تفاؤلاً لربما هي مجرد فرصة لإرغام العالم على تبديل جلده.