وطنيةُ الرفض ووطنيةُ الصلح
علي الزعتري
26-09-2022 12:22 PM
أخالُ جَمْرَ الوطنية يحرقنا جميعاً، رافضين ومتصالحين، فالوطنيةُ العربيةُ صارت فضفاضة في اتساعها للجميع وهي تحملُ معانٍ مختلفة، ومتناقضة، للمواطنين وأولي الأمر منهم، وعلى أي جانب كنتَ الاكتواء بالجمرِ حاصل.
الرئيس السادات رأى وطنيتهُ بزيارةِ القدس والصلح مع "إسرائيل". الإسلامبولي رأى وطنيتهُ في اغتيال السادات. لا شك أن السادات اخترق حاجز الوطنية النفسي صاعقاً الجميع عندما اصطلحَ مع "إسرائيل" وتبعه من المصريين آلافٌ من المؤيدين لكن الملايين من المصريين لا تزال ترى وطنيتها في رفضِ "إسرائيل" وهم وراء حاجزٍ من المستحيلِ تهاويه. وًهل كانت في الجزائر وطنيةَ هواري بومدين أحسنَ من وطنيةِ أحمد بن بيللا؟ وأبو عمار رأى وطنيتهُ في نضالٍ طويلٍ أنهاهُ عملياً بأوسلو بينما كانَ وفدَهُ يفاوض باسمه بوطنيةٍ أصيلةٍ في مدريد مع باقي العرب. ثم عاد أبو عمار لوطنيةٍ حاولتْ التملص من أوسلو فحاصرتهُ الصهيونية ومن ثم قتلتهُ بالسُمْ. القائد عبد القادر الحسيني رأى وطنيته في القتال ضد الصهاينة حتى الاستشهاد علي يد الصهيونية كذلك. والأمر كذلك في الأردن. فبعدَ السموع والكرامة وشهداء أسوار القدس أتت معاهدة وادي عربة لتضعَ الأردن و"إسرائيل" في إطار التصالح. وفي كُلٍّ وطنية ولها تبريرها في وقتها. في فلسطين اليوم تشبثٌ بوطنيةٍ من الداخل تسمح بالتعاون مع المستعمر ووطنيةٌ تعاديه دون هوادة. ووطنية المغرب والإمارات والبحرين والسودان أَمْلَتْهٰا مصالحُ هذه الدول كُلٌّ من زاويتها مع احتفاظها رسمياً بوطنيةٍ عاطفيةٍ تجاه فلسطين. في لبنان وطنيةٌ تفاوضُ العدو من خلال وسيط و وطنيةٌ تهدده بالحرب. وهناك وطنيةٌ لبنانية تقبل العدو صديقاً، لو تمكنت من القرار. الوطنية الجزائرية تقول "لا" حاسمة لإسرائيل و "مع" حاسمة لفلسطين. موقفٌ صريحٌ. وكذلك وطنيةَ الكويت. كل الدول العربية تقول نفس الكلام تقريباً، أنها وطنيةٌ في أفعالها و مشاعرها لكن هل الوطنيةُ العربيةُ في هذا الزمان وطنيتين؟ واحدةٌ ترى مصلحةَ الدولة في الصلح مع "إسرائيل" لأنهُ ينفعُ لِفتح بوابات العطاء العالمي و الدخولِ حتى لعوالمِ الكوزموبوليتانية الكونية، و واحدة ترى المصلحة في الرفض أو المقاومة للعدو الصهيوني و في ترصيص الصفوف و اجتراحِ ثقافةٍ مُقاومةٍ. فهل كل هؤلاء العرب من مصطلحين و رافضين و بين بين وطنيين؟ لا أشك في ذلك للحظة. لكنَّ كل واحدٍ منهم يفهم الوطنية كما يريد و يُفَعِلِّها كما يريد و يستطيع.
المقاومون يريدونها باليدِ المُضَرَّجةِ و الحكومات ترتئيها بالأيدي الناعمة. الحكومات تفرض حالة الصلح الوطني بأساليبِ الشرعيةِ المؤسسية، مثل التصويت بالقبول بالمجالس النيابية، و أما الشعب فله أن يقبلَ أو يرفض لكنه لن يتجاوز المسموح. المهم للدولة الاستقرار. و المهم للشعب علي غالبيته أيضاً الاستقرار. و إن عَنَىٰ الوصول للاستقرار انتهاء حالة الحرب، أو بقاء العداء لكن مع الحصول علي غازنا من البحر أو احتياجاتنا عبر المعابر و الأنفاق، فلا بد طبعاً من أن الازدهار هو الصفحة التالية للصلح، أو التفاوض دون اعتراف، أو إبقاء العداء متعلقاً بشعرةِ معاوية من الهدنة، وهذا كله مفتاحٌ مقبولٌ للاستقرار بعدَ أم قصرَ الزمن. أليس كذلك؟
لا، ليس كذلك.
لم يلحق الازدهار حملات و اتفاقيات السلام مع الصهيونية بل شَبَّتْ نيران الفساد في المؤسسة العربية التي اخترعت تعبير الانفتاح و القطط السمان و الحيتان و أرصدة الشطوط البعيدة والتي قادت للربيع العربي. و لا أعتقدُ أن غاز لبنان سيُحَوِّلُ اللبنانيبن لسعداء في ظل منظومة فسادٍ إقطاعي عامة. لم يؤثِّر الربيع العربي علي مفهوم الوطنية تجاه الصلح بين مصر و "إسرائيل" فلم تنكص الحكومات المصرية بعد زمان حسني مبارك عن اتفاق السلام. لكن الربيع العربي ساهم في خلقِ الفوضى العارمة في تونس و ليبيا و مصر لفترة و في خراب سوريا و لبنان و العراق و اليمن و السودان و هو ما خلخلَ و فتحَ ثغراتٍ أضعفت الجسد العربي و ساعدت بدخول الڤيروس الصهيوني. قفزتْ هجمةُ الربيع عن الأردن الذي تغيرتْ حكوماته لتناورَ سخطَ الشعب من الغلاء و في فلسطين اختلف الإخوة بين رام الله وغزة. لكن معاهدات السلام بقيت، و إن بَرَدتْ في منطقةٍ أوسع فقد استعرت في المنطقة نيرانُ غزة ليس مرةً واحدةً. و لهذا طُرِحتْ صفقة القرن علي يد المدلل جاريد كوشنر، صهر دونالد ترمپ، الذي لم يكن يفقهُ في السياسة شيئاً إلا عندما تعلمها فينا بينما هو فيما يُقال ماهرٌ في عَدِّ الأرصدة. صفقة القرن أتت لتحقيق اعتمادٍ اقتصاديٍّ متشابكٍ بين العرب و "إسرائيل" يجعل الفقير العربي غنياً و يدفعهُ عن رفض "إسرائيل". قالوا أن للسلام حسناتٌ ليس أقلَّها تثبيت المنطقة علي وضعية الاستقرار و الاستثمار يتبع الاستقرار. لكنها أتت مع إشاعات تنازلاتٍ لم تتضح تماماً للشعوب و كانت لمن عرفها كالصفعة فلم يقبلها العرب و عملوا علي إفشالها لكن كعنوان. محتواها يعيشُ اليوم علي شكلِ تداولٍ اقتصادي وبيئي و بالموارد الطبيعية الناضبة مثل الغاز و الماء. الأردن و مصر، و لبنان لاحقاً، هم في هذه القائمة و إن اقتصر الوضع للبنان علي الغاز فقط. الواقعُ العربي صعب فماذا يستطيع الأردن الناضب مائياً و أُحفورياً أن يفعل سوى الحصول علي الماء و الغاز من "إسرائيل"؟ و مصر مائةَ المليون لا تريد حرباً مُفْنِيَةً بل قفزاتٍ سريعةٍ نحو إعادة البناء. هل هذه ليست وطنيةً؟
القابلون يقولون أنها رأس الوطنية و الرافضون يلعنونها فهي لهم تنازلٌ للعدو. و ليس للفئة الرافضة من قولٍ لوقف التنازل هذا بل يعتقد الكثير أن رفضهم هو من نوعِ التنفيس عن الغضب. فلكي يقفلوا باب التعاون عليهم أن يحكموا، و إن حكموا فعليهم أن يتجاوزوا كل الرافضين لهم من الداخل الوطني و الخارج و أن يكونَ عندهم استراتيجيةً و خطةً لليومِ التالي. وهذا أمرٌ غير مضمون العواقب. لذا فإن هدف صفقة القرن هو بناءَ اعتمادٍ متشابك عربي "إسرائيلي" يدفعُ بعيداً عواقب الثورة علي الأمور الواقعة بإسعاد الجميع. يعني هي وصفةٌ رومانسية و إن سقطَتْ فسيسقطُ العرب لأن لإسرائيل من يحميها من السقوط. و من يحمينا من السقوط إن رفضنا ما تقدمهُ لنا المعونات الدولية!؟ بدائلَ السياسات التي درستها الدول تصل لنتيحةٍ واحدة و هي التصالح مع "إسرائيل" و لو دون عنوان الصفقة لأن التصالح، مع غضبٍ شعبيٍّ مقدورٍ عليه، لا يزال أقل وطأةً من العداء و الحروب. هذا هو تقدير الدول و الحكومات و ليس تقديرَ الرافضين، فالرافضون علي حق في رفض الصهيونية و لكنهم لا يملكون في الحقيقة نموذجاً غير تثوير المنطقة و لا أعتقد أن الشعوب قادرةً علي تحمل هذا النموذج لفترةٍ طويلة. هل يستطيع الأردن العيش دون مياه مثلاً و دون طاقة؟ أم أنه سيستورد المياه بصهاريج من الجوار العربي كما يفعلُ بالنفط من العراق؟ كذلك فلننظر لتوازن الردع بين حزب الله و"إسرائيل" و ذلك المشابه مع حماس و الحاجة المتبادلة لوقف الخسائر المدنية و في البنية الإسكانية و انظروا للحرب الروسية الأوكرانية و صعوبتها حتى عندما تخوضها دولٌ عُظمى. و أرجو أن لا يظن القارئ أنني اُثْبِطُ من عزيمة العداء للصهيونية أو بناء القوة المتراكب لدى محور المقاومة. و لكنني لا أظن أن شعوب المنطقة، بما فيها الصهاينة و المدنيين اليهود، علي استعدادٍ بُنيويٍّ لدخولِ حربٍ إلا ما نراهُ صهيونياً من اصطيادٍ لأهداف يُعرقلُ تدميرها لدى المقاوم العربي القدرة علي تعظيم القوة لديه. و إن كانت "إسرائيل" مستعدةً بالبنية التحتية الحربية من ملاجئ و خدمات طوارئ فإن هذه تختفي تماماً من مفردات المقاومة و الدول العربية. فقد يستطيع مئات الآلاف من "الإسرائيليين" الاختباء و النجاة لكن لن يكون هذا نصيب العرب. ليس تخويفاً بقدرِ ما هو إقرارٌ و تحذيرٌ للمستقبل. ثم أن خوض حرب استزافٍ طويلة و ما يقابلها من إجراءاتٍ قاسيةٍ يفرضها المجتمع الدولي مثيل ما يحدث بلبنان و سوريا هو أمرٌ لن تستطيع تحمله شعوبٌ عربية لم تعرف إلا الدلال علي مدى عقود.
الوطنية تقلصت لفريقين بمواجهة "إسرائيل". وطنيةٌ ترى نفسها في التصالح و الابتعاد عن حروب مدمرة، و وطنيةٌ مقاومة لكنها ليست مستعدة لمواجهة جبروت "إسرائيل" ولن تستطيع تحمل تبعات الحروب علي المدنيين. يؤخذُ علي الوطنية المتصالحة نزعتها نشر الترفيه و التتفيهِ الإعلامي لشعوبها و غياباً مُلاحَظاً لاستثارةِ الحَمّيِّةِ إلا عند نزالات كرة القدم! و كأنها تتعمد أن ينسى المواطن همومه الوطنية و يستديرَ بوجههِ للحياةِ الفارهةِ و احتياجاتها، لكنها تَعْرُجُ في هذا عندما يغضب المواطن من ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة و تنطلق الاحتجاجات التي تتحول لهتافات تمس عَصَبَ السلامَ. و يؤخذُ عليها عدم ممانعتها تطوير علاقاتها مع "إسرائيل" لآمادٍ بعيدة و هي بإمكانها حصر العلاقات في الرسميات. و يُؤخذُ علي الوطنيةِ الرافضة قِلَّةَ حيلتها و طولَ قائمة أهدافها و تفاعلاتها السلبية فيما بينها على أُسسَ عقائدية.
الوطنيتان تتمسكان بوجهتي نظر متناقضتين لكنهما تعلمان يقيناً أن الحاصل هو تأجيلُ المكتوب، والمكتوب تاريخاً وديناً، علي الأقل عند المؤمنين والظانينَ خيراً في التاريخ، هو تحرير فلسطين. الزمن و المقدرات و الزخم الشعبي هي الحواسم في هذه المعادلة فهل تلعب لصالحنا أم ضدنا؟ إنهُ بحثٌ يطول لكنهُ بملامحَ لا تغيب تنقسمُ الملامح فيه للسلبيات والإيجابيات وسنتطرق لكل قسمٍ بما يسمح المقال.
أهمَ الإيجابيات هو الإيمانُ غير المتزعزع بعروبة فلسطين و زوالِ "إسرائيل" بين الشعوب العربية. قد نُصابُ بالخيبة عندما نرى عُرساً يهودياً هنا و حاخاماً يسيحُ هناك و نقرأَ تعليقاتٍ شاذة من البعض عن ولعهم باليهود لكن هذه لا تعدو كونها ذبابةً أمام إصرارٍ عروبيٍّ علي معاداة الصهيونية. و بالطبع تسوؤنا هجمة التبادلات التجارية و العسكرية و غيرها لكننا نعلم أن بقلبِ كل عربي من المحيط للخليج رفضٌ أصيلٌ لهذه التبادلات. كما أن تصاعد القوة المقاومة تدريجياً و بثقةٍ واضحةٍ عاملٌ إيجابيٌ و إن لم يكن كافياً إلا للردع المؤقت. و كذلك انفضاح "إسرائيل" ككيانٍ عنصريٍّ في عالمٍ لا يحتملُ العنصرية. و ازدياد القوة العربية العسكرية لا شك شيئٌ إيجابي.
لكن السلبيات ليست قليلةً. فالعالم الذي يرفض العنصرية لا يستطيع لَيَّ اليد العنصرية "الإسرائيلية" للآن. و المقاومة المتعاظمة تشكو من فقدانها للدعم العربي الأشمل و من انقسامها طائفياً مما يُضعِفها بلا شك. و تزايد الانفتاح علي "إسرائيل" من دول عربية وإسلامية سلبيةٌ حقيقيةٌ تُعززُ موقف "إسرائيل" الداعي لاعتبارها جزءً طبيعياً من المنطقة و العالم و ليس كياناً هجيناً عنصرياً. و القوة الإسرائيلية العسكرية تتعاظم بسرعةٍ أكبر مما تتعاظم فيه العربية و تتميز بتطويرها لنفسها منظومات سلاحٍ حديث.
تتسابقُ الإيجابياتُ و السلبيات في دورةِ الزمان الطويلة حقاً. لقد شَهِدَ الفلسطينيون الزحف اليهودي علي بلادهم منذ نهايات القرن التاسع عشر و من بعدها ابتلاع فلسطين و الجولان و كل المآسي التي عانتها شعوب المنطقة و لا تزال. و اليوم تحتفلُ "إسرائيل" بكيانها الذي يرفع علمه من المحيط الأطلسي للخليج العربي حرفياً. ترفضه الشعوب و تقبلهُ الحكومات. لا أحدَ عندهُ القدرة علي التنبؤ بنهاية الاستعمار الصهيوني و إذ لن تستطيعَ الحكومات فرض سياساتها التصالحية علي شعوبها فلا تستطيع الشعوب فرض رفضها علي حكوماتها و لن تستطيع المقاومة الانتصار دون دعم و لا تريد الحكومات دعمها.
ما نعيشهُ اليوم هو أمرٌ واقعٌ مريرٌ تتجاذبَهُ بقوةٍ و عِنادٍ ساحات العرب و كلٌّ يقولُ أنهُ واقعٌ وطنيٌّ. إنهُ حبلٌ طويلٌ شائكٌ من السياسات و الأفعالِ أشواكٌهُ لها ألَمٌ يختلجُ الشعور بها عند العرب ما بينَ راغبٍ و رافضٍ و كلهم، و عدوهم، في حالةٍ من الانتظارِ للزمانِ الآتي للنظرِ من ينجو بوطنيتهِ الغالبة؛ و لكن اللهُ غالبٌ علي أمْرِهِ.