في روايته الصادرة حديثاً عن دار البيروني في عمّان بعنوان "عائدان من النار" , يقدم لنا الصديق الدكتور سمير حمدان عالماً ترسمه شخصيتان ؛ أحدهما عاش و مات و دخل النار ثم خرج ليحدثنا عما رأى , و الثاني ذاهب بقدميه الى النار من دون ان يدخل في دنيا الأموات.
في روايات من هذا النمط لا يستطيع القارئ أن يلخصها بتسلسل منطقي عقلاني مرتب لان عالمها لا يخضع لقوانين العلم و البحث و الضوابط و الشروط التي يتعين وجودها في ما يعرف بالكتابة العلمية او الأدبية الملتزمة.و من المؤكد ان قارئ الرواية سرعان ما يتذكر رسالة الغفران لأ بي العلاء المعري, و الكوميديا الالهية لدانتي.
سأبادر الى القول أن هذه الرواية تنتمي الى المدرسة السريالية في الأدب , اذ يسود اللامعقول و الشطط المفرط في الخيال الى أقصى الحدود الممكنة.لقد فتح الكاتب خياله على مديات لا حواجز لها ولا قيود, معززاً العالم السريالي الذي يمكن أن يرسمه خيال بشري. و أستطيع القول أن كل ما جرى في هذه السردية السريالية انما هو " مونولوج" طويل من أوله الى اخره و ان جاءت مشاهد يبدو فيها حوار لشخصيات في مواقف مختتلفة , لكن ذلك لم يكن سوى ضرورة من ضرورات السرد و تغييراً لنمط السرد الأحادي الممل. اذاً , هو عالم ميتافيزيقي, خارج المكان و الزمان و الحواس البشرية العادية. لكن هذا العالم الميتافيزيقي غير منفصل عن عالمنا الذي نعيش, عالم الواقع العربي او العالمي بشكل عام. فما الذي يدفع روائياً مهموماً بما يجري في هذه الحياة و في هذا الواقع بالتحديد لأن يختار مدرسة فنية "فوق واقعية"-أي سريالية-لينتج في ظلها رواية؟
في ظني أن الكاتب ان نظر الى واقعنا العربي سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً و انسانياً سيرى عالماً سريالياً لا صلة له بالمنطق ولا بالحياة الكريمة التي تسري في المجتمعات العربية. عالم يمضي من هزيمة الى هزائم , و من مجزرة الى مجازر و من جوع الى مجاعة. و اذا ما نظر الى المجتمع الأوسع , العالم الذي تسيطر عليه قوى القمع و الجشع و غياب القيم و العدالة , يرى فيه أيضاً عالماً سريالياً لا يخضع لمنظومة أخلاقية أو انسانية أو أممية. في هذا الواقع, يصبح الانسان كياناً بلا قيمة , و الشعوب حالات من الامتثال الجماعي الذي يعمق الهيمنة اللاأخلاقية على العالم, بل على الكون بأسره.
ليس غريباً اذاً أن يختفي أحد الشخصين الأساسيين في الرواية في شكل حيوان , فيحظى باحترام السيدة الشقراء و حبها و ينال الطعام الذي يشتهي و ما لا يشتهي , لا بل يحظى بالأمن و السلام و السلامة , في وقت كان من الممكن له أن يلقى حتفه من أي مصدر من مصادر الحاقدين على البشر.
وهكذا يبدو لي أن حمدان في روايته هذه انما يقدم نقداً لاذعاً لواقع عربي و عالمي, و في الوقت ذاته يبدو و كأنه يقدم , عن طريق سرديته الخاصة , عالماً بديلاً, عالماً خالياً من القيود الظالمة , و التقاليد المتهالكة , عالماً من الحرية الانسانية الرامية الى الحفاظ على الكرامة الانسانية و بالذات كرامة الشعوب المستضعفة , و الشعوب المستعمرة .هو بلا شك , عالم جذوره في الحلم , في الانطلاق الخيالي الذي لا تحده الحدود. باختصار شديد, رواية حمدان عمل ادبي يناهض هذا العبث الذي يحكم العالم و يتحكم فيه , و يدعو القارئ الى التمرد عليه و تغييره , لا مجرد تفسيره و حسب, تماماً كما فعل الكاتب في هذه الرواية ---"عائدان من النار" رواية تستحق القراءة, لأنني واثق من أن كل قاريء من قرائها سيخلص الى رؤية خاصة به .
انها تفرّد النص و تعدد التلقي.