ذات يوم كتبت عن صديق شاعر راحل، لم يمهله العمر طويلا، ليترك نتاجا أكثر مما نشر، وفوجئت برسالة وصلتني عبر الخاص من صديق مشترك أثق به، أنّ الراحل له نتاج مخطوط، لكنّه أودعه لدى صديق قريب منه، وبعد رحيله، قام صديقه بإتلافه، وجعله طعاما للنار!
صُعقت حين سمعتُ الخبر، واستحضرت العداء الخفيّ الذي كان بين موزارت وساليري، والدسائس التي كادها ساليري لموزارت، رغم أنّ الموسيقيينِ ربطتهما صداقة عميقة، وكان سبب العداء هو الغيرة الفنية، حتى أن البعض اتهم ساليري بدس السم لموزارت، فمات عام 1791 عن (35) عاما، لكن ابنه عندما سئل إن كان ساليري قتل والده بالسمّ، أجاب" سالييري لم يقتل والدي، لكنه نجح في تسميم حياته بالمؤامرات والدسائس"!
والغريب أن الذي قام بحرق النصوص، وقد رحل عن عالمنا هو الآخر، لم يكن شاعرا، ولا يمكن أن يكون منافسا له، فهو يشتغل بمجال مختلف، إذن ما الذي دعاه لحرق نصوص شاعر راحل وثق به كلّ الثقة، وأمّنه على أغلى ما يملك سوى أمراض النفس البشرية، يقول يونغ "لا تزال معرفتنا بالنفس ضئيلة جدًّا لدرجة أنّه من الغرابة أن نفكّر أننا نمتلك الحدّ التجريبيّ الأدنى من ظاهرية النفس: فكيف لنا والحال هذه أن نحلم بنظريات عامّة؟".
وحفظ تاريخ الكراهيّات المضمرة الصادمة وقائع أخرى، فلليوم يحتار الدارسون في أمر الرصاصة التي أطلقها (بول فيرلين) سنة 1873 على الشاعر( آرثر رامبو)، فأصابه في كفّه، رغم الصداقة التي جمعتهما، - قرأت خبرا في ديسمبر 2016 يقول أن المسدس الذي استخدمه فيرلين في تلك المشاجرة بيع في مزاد بباريس بقرابة 435 يورو!- وهكذا بيع دم رامبو في المزاد !
ومن الشعر الفرنسي، إلى الإسباني، ما الذي يجعل الشاعر الإسباني خوان رامون خمينيث الحائز على نوبل 1956 ينتقص من شاعرية نيرودا، ويصفه بـ(أفضل السيّئين)؟ ألأنّه بحسّاسيّة الشاعر كان يعرف أنه سيقاسمه المجد؟ وهذا ما جرى بعد وفاته في 29 مايو 1958 عندما حاز نيرودا على جائزة نوبل عام 1971.
وفي كتابه ( حرائق الشعراء ) الصادر عن المؤسسة العـربية للدراسات والنشر ببيروت ١٩٩٤ أظهر الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي ندمه، وهو يتحدّث عن السيّاب الذي يقول عنه" لمستُ عنده من اللقاء الأول ذلك الجنوح الرومانسي العنيف الذي كان يسكن روحه ويحلق في سماء الطبيعة العراقية الجنوبية بعد أن يغسل المطر وجهها العجوز، ويعيد اليها صباها وصبـابتها، وكـانت تهويماته، وأحلامه البعيدة، وخيالاته المجنحة تلك ترفرف بهدوء مشوب بالانفعال، وتحطّ على قصائده، فتترك ريشه الملوّن الساحر عليها"، ويستدرك قائلا :" لكنّ الحرب المؤجلة بيني وبينه وقعت عندما صدر ديواني (أباریق مهشمة)" ملمّحا لداء الغيرة الأدبيّة، ذاكرا نتفا من وقائع تلك الحرب مضيفا" أشعر بالحزن والأسى الآن، وأنا أتذكر تلك السنوات العجاف التي كنّا فيها نقاتل طواحين الهواء"، وكان استدراكا جيّدا، رغم أنّه جاء بعد حوالي ربع قرن من رحيل السيّاب، لكنّ نيران الحرب التي نشبت بين البيّاتي، والشاعر عبدالرزاق عبدالواحد عام 1956 عندما كتب مقدمة ديوانه( طيبة) دون طلب منه، ورأى عبدالواحد أنّه نصّب نفسه أستاذا على زميل له، ظلّت مستعرة، وقد رأيت شرارها المتطاير في موقف جرى صيف عام (١٩٩٤)، عندما كنت جالسا مع عبدالواحد وزوجته، والشاعر السوري فايز خضور بصالة فندق (القدس) بعمّان، ومرّ البياتي، فنهض لملاقاته، لكن البياتي ،ألقى تحية على الجالسين، و تجاوزه، فقال له : أبا علي، بعد هذا العمر، ونجتمع هكذا؟، على الأقل سلّمْ عليّ كونني عراقيا، فقال له :عراقي من طرف واحد، ومضى، فالتفت إليّ عبدالواحد، وقال: أسمعت؟ عراقي من طرف واحد؟
وظلّ البيّاتي يرفض لقاء عبد الواحد حتى وفاته في أغسطس 1999م بدمشق، "وعداوة الشعراء بئس المغنم" كما قال المتنبّي الذي طاله الكثير من حسد الحسّاد من الشعراء، واللغويين من معاصريه، الذين كان يجمعهم به مجلس سيف الدولة الحمداني، وكانت ذروة ذلك، عندما رماه الحمداني بدواة كانت بيده فشجّ رأسه، وقال مرتجلا:
إن كان سرّكمُ ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ
فاختلط دم المتنبي لاحقا بدم رامبو الذي بيع في المزاد الباريسي بثمن لم يكن بخسا، لكنّه ظلّ بقعة سوداء في تاريخ عداوات الشعراء.