خطاب عقلاني ذاك الذي توجه به جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين إلى المجتمع الدولي من على منبر الأمم المتحدة في دورتها السابعة والسبعين، بدا خطاباً قوياً، واضحاً في معانيه ومقاصده، وواقعياً منطقياً لا بد للعقل الإنساني أن يتقبله، وأن يتفاعل مع محتواه، ولا بد للشعوب أن تقف موقفاً مقدراً لهذا الخطاب التوعوي الاستقرائي، والاستشرافي الإنساني، الذي لا ينم عن ضعف، أو تنازل، أو تعصب، ولا عن تعنت، وإنما عن مواقف أخلاقية ومبدئية ثابتة، وعن حس إنساني عال، واستشعار بالمسؤولية تجاه مختلف القضايا الدولية والإنسانية، وعلى رأسها مسائل الغذاء، وسلاسل تدفقه وأسعاره، ومستقبل الشباب، وغير ذلك من مسائل.
ورغم شمولية الخطاب، توقفت ملياً عند أكثر من نقطة محددة بعينها، وعلى رأسها تجديد الموقف الأردني الثابت وغير القابل للتفاوض بشأن الوضع القانوني والتاريخي لمدينة القدس، وحماية أمن ومستقبل الأماكن المقدسة، واللافت في الخطاب، الالتزام الهاشمي بالدفاع عن الحقوق والتراث الأصيل، والهوية التاريخية للمسيحيين في منطقتنا، وقول الملك بشكل مباشر للمجتمع الدولي أن «المسيحية في المدينة المقدسة معرضة للخطر»، وأن «حقوق الكنائس في القدس مهددة»، ولهذا نجده قد أبلغ المجتمع الدولي أن ذلك «لا يمكن أن يستمر»، وتأكيده أن المسيحية جزء لا يتجزأ من ماضي منطقتنا، والأراضي المقدسة، وحاضرها، ويجب أن تبقى جزءاً أساسياً من مستقبلنا.
وفي هذا يعلن الملك أن الرعاية الهاشمية للمقدسات في القدس الشريف، ليست محصورة في المقدسات الإسلامية، والملك يؤكد ذلك للمجتمع الدولي، ليس فقط كملك للأردن، أو كعميد للأسرة الهاشمية، بل «كقائد مسلم»، وتلك رسالة سامية واضحة تؤكد البعد الأخلاقي الذي يتحلى به الموقف «الهاشمي الأردني المسلم» تجاه المسيحية العربية، وبشكل خاص في الأراضي المقدسة.
وقد راق لي وصف الملك للحالة المحتقنة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عندما قال إن السلام لا يزال بعيد المنال، وأن الحرب لم تُقدم، كما الجهود الدبلوماسية إلى الآن، حلاً لإنهاء هذه «المأساة التاريخية»، وقول جلالته إنه لا بد للشعوب قاطبة، لا السياسة، أو السياسيون خاصة، القيام بالضغط نحو حل هذا الصراع من خلال قادتها، وتلك حقيقة مريرة، يبدو أن الملك يوجهها بخاصة، إلى قادة إسرائيل قبل غيرهم، وإلى الدول المتحالفة مع إسرائيل التي حالت دون التوصل إلى اتفاق سلام، يرى الأردن أنه لن يتحقق إلا على أساس حل الدولتين وفقاً لقرارات الأمم المتحدة التي تقضي بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، وقابلة للحياة، على خطوط الرابع من حزيران عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ولذلك أكد الملك هذه المرة كما في كل مرة، أنه لا يمكن إنكار حق الشعب الفلسطيني في تحديد مصيره، وهويته الوطنية المنيعة.
خطاب الملك لم يكن بعيداً عن قضايا الشباب، التي تبدو معضلة صعبة، ففي استطلاع «أصداء بي سي دبليو» الرابع عشر، لرأي الشباب العربي، شارك فيه 2400 من خلال مقابلات شخصية في 50 مدينة عربية، مثلت 17 دولة، لفئة تتراوح أعمارها بين 18 و 24، وُجِد أن 80 بالمئة منهم، يرون أن الاستقرار أهم من الديمقراطية، وأن البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة، أكبر العقبات التي تواجههم، وأنهم يخططون للهجرة، ولذلك فإن قضايا الجوع، والأمن الغذائي، ومحاربة ارتفاع أسعار الغذاء، وتوفير فرص العمل، وبث روح الأمل في نفوس الأجيال الجديدة، باتت تشكل تحدياً، لا للأردن والمنطقة العربية أو الإفريقية فقط، وإنما للمجتمع الدولي برمته، وقد عبر الملك عن هذه الأبعاد، أضف إلى ذلك قضايا المناخ والبيئة والاختلالات التي تعتريهما، والتحديات المطلوبة لمواجهتها، والتي لا يمكن لدولة أن تضطلع بها بمفردها.
(الدستور)