يقصُّ شريط المتحدثين رئيس البرازيل عشية انطلاق المناقشة العامة في ثالث ثلاثاء من شهر سبتمبر (أيلول) في كل عام، لغز تحدث البرازيل أولاً، يعود إلى منتصف خمسينات القرن الماضي، إذ أخذت البرازيل هذا «الدور»، بعدما لم تتقدم أي دولة أخرى لتكون الأولى في قائمة المتحدثين. وبخلاف الجميع، تجرأت وتحدثت أولاً، لتصبح منذ ذلك الحين الأولى دائماً في لائحة المتحدثين في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
عقب البرازيل، يتحدَّث الرئيس الأميركي (الدولة المضيفة) وهذا عُرْف درجت الأمم المتحدة على اتباعه وفق بروتوكولاتها. تستمر المناقشة العامة عشرة أيام يتعاقب رؤساء الدول فيها على صعود المنصة المكسوة بالمرمر الأخضر المصقول، يلقون بيانات مُعدّة بعناية فائقة تحاكي هموم بلدانهم ومصالحها. وأحياناً يشنُّون حرباً كلامية على منافسيهم أو يعلنون عن صلح طال انتظاره لإضفاء شرعية المكان عليه! خلفهم يجلس المجري كسابا كوروشي الذي انتخب مؤخراً رئيساً للجمعية العامة في نسختها الـ77 خلفاً لعبد الله شاهد من المالديف، الذي رأس الدورة الماضية. قال كوروشي لوسائل إعلام بعد انتخابه «إنَّ العالم يعاني بشدة من انعدام الثقة، وبينما يخطط لبذل قصارى جهده في سبيل التصدي لمجموعة من التحديات العالمية - من أزمة المناخ إلى الحرب في أوكرانيا ونقص الغذاء - سيستخدم أيضاً ولايته في قيادة الهيئة الأكثر تمثيلاً في الأمم المتحدة للمساعدة في استعادة الثقة بين الدول وتعزيز الثقة في النظام الدولي».
جدول أعمال هذه الدورة مزدحم، صاحبه ضجيج إعلامي غير مسبوق، انعكس ذلك في تخصيص يومين لأكثر المواضيع المطروحة إلحاحاً؛ اجتماع رفيع المستوى لإحياء الذكرى السنوية الـ30 لاعتماد إعلان بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية: 21 سبتمبر 2022.
وخصَّص الثاني، جلسة عامة رفيعة المستوى للاحتفاء اليوم الدولي للإزالة الكاملة للأسلحة النووية: 26 سبتمبر 2022.
إزالة السلاح النووي هدف صعب المنال، محاولة الحد من انتشار هذا السلاح الفتاك ووضع قيود صارمة لاستخدامه، هو الهدف الممكن تحقيقه. إن ما يطرح في أروقة الأمم المتحدة من مبادرات جديدة وخلاقة، لا يعيق تحقيقها سوى خلافات أعضائها.
على هامش الدورة الـ77 تنعقد في يوم 19سبتمبر قمة أُطلق عليها تحويل التعليم؛ استجابة للأزمة العالمية في التعليم - أزمة المساواة والشمول والجودة والملاءمة.
هذه الأزمة، التي غالباً ما تكون بطيئة وغير مرئية، لها تأثير مدمر على مستقبل الأطفال والشباب في جميع أنحاء العالم.
توفر القمة فرصة فريدة لرفع مستوى التعليم إلى قمة جدول الأعمال السياسي العالمي، وحشد العمل والطموح والتضامن والحلول لاستعادة خسائر التعلم المرتبطة بالوباء، وزرع البذور لتحويل التعليم في عالم سريع التغير.
يدرك العالم أن ضعف مستوى التعليم بسبب توقف تعليم ما يزيد على 90 في المائة من أطفال العالم إثر جائحة كورونا؛ وهو أكبر اضطراب تشهده أنظمة التعليم في التاريخ. وبالنسبة للعديد من الطلاب، وخاصة الصغار، قد يصبح هذا الانقطاع مستديماً، مع ما يترتب عليه من عواقب محتملة على حقوقهم، وعلى المساواة والتنمية للأجيال القادمة.
بطبيعة الحال ستكون أجواء قاعة الجمعية العامة مسكونة بهواجس؛ الصراع في أوكرانيا، أزمة الطاقة وانحراف المؤشرات الاقتصادية بالاتجاه السالب.
ويتزامن انطلاق أعمال الدورة الـ77 مع انحسار دور مجموعة 77 (مجموعة سبع وسبعين تأسست عام 1964) التي كانت في يوم ما واحدة من الكتل الوازنة في العلاقات الدولية وصانعة لكثير من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، من خلال خلق قدرة تفاوضية مشتركة ضمن نطاق الأمم المتحدة. هل هذا مؤشر على تراجع دور الدبلوماسية المتعددة الأطراف لحل النزاعات بين الدول؟ تكتلات مشابهة شهدت تصدعاً، الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا وتمدد النفوذ الروسي. منظمة الوحدة الأفريقية بسبب أزمة الصحراء ومشاكل الحدود بين الدول الأعضاء. الجامعة العربية وتضخم هيكلها الإداري رغم المبادرات لإصلاحها. ويوجد قائمة طويلة من المنظمات الدولية والإقليمية تشهد تراجعاً ملحوظاً في أدائها!
غموض يكتنف مستقبل منظمة الأمم المتحدة العتيدة، إلى حين اتضاح الرؤية وعلى جميع الدول الأعضاء دعمها على الصعد كافة. وتأمل عالما من دونها سيكون مسرحاً للفوضى سترثه الأجيال القادمة.
(الدستور)