الدول والحكومات والأمم لا تستقيمُ حيواتها و شؤونها دون وجود الناقد لها في كل أمورها، و وجود حوارٍ بين الناقد و القائم علي هذه الأمور. هذا هو مبدأ المشاركة و حرية التعبير و هو ما طلبهُ الله تعالى من الأمة حين أمرها بالشورى، و ما الشورى إلا حوارٌ عميقٌ يقود للمنهج القابل للتنفيذ. غير أن هذا المبدأ المثالي لا يسلمُ من الاستبداد والاستفراد بالحكم المطلق، علي مرور القرون و في كل الأمم. من رأس العائلة لرأس الدولة تجذرت الفردية وضعفَ التسامح عن قبول النقد.
نموذج الحكم في العائلة والدولة يقعُ بين طرفي القيد القاسي و الحريةُ المطلقة و بينهما نماذج تخلط بين هذين النقيضين لتنتجَ حوكمةً ترضى بها الناس أو تقتنع بأنها الأفضل. من صغيرِ الشأن لكبيرهِ يُثْرِي الحوار ثم القرار ثم مراقبة تنفيذه والتصحيح كل اتجاهٍ للتطور البشري. و من صغيرهِ لكبيرهِ كذلك يخنق الاستبداد بالرأي و الانفرادية كل منفذٍ للتسامح و الاقتناع الفردي و الجمعي. و لتبرير الاستبداد و الفردية يستخدم المستبد المنفرد مفردات الكبير و الحكيم و الخبرة طاغياً بذلك علي مفردةِ الشورى و مبدأ التداول و التحاور. و من المؤسف أن المستبدَ سيجدُ دائماً من يعينُ استبداده و يهدمُ حججَ الشورى و التداول و حرية الكلمة. و لهذا تُصاغ القوانين تحت مسمياتٍ عديدة تعلو و تنخفض سقوفها لضبط و لكبت النقد و للتنفيس عن السخط و الاعتلال الذي يصيب الناس فتعلو أصواتهم لكن دون نتيجة.
المؤسف هو تماهي البعض مع قبول كل ما يصدر عن الراعي دون رغبةٍ في نقاشٍ، حباً أم جهلاً أم نفاقاً. تماماً كما في العائلة تنقسمُ الأدوار فهي في البلاد الشاسعةِ كذلك. والمؤلم هو سهولة خلق الرغبة العارمة المتعمدة لإقفال أبواب السؤال، والانسياق وراء العاطفة، وتغييب حق الاستجواب الطبيعي لمسائل الحياة و للقرارات التي تصدر كمسارٍ طبيعي في الحياة. هنا تتحد رغبة ولي الأمر بالتفرد، و رغبات المُتزلف المتماهي بالانتماء، وإن بتجاهلِ الحاكم له تماماً فهو لا يرى فيهِ إلا هاتفاً له في الشارع أو الصحيفة، وتضيقُ مساحات الرأي إلا بالقبول و الإشادة و تتحول التساؤلات المشروعة من العَلَنِ الصحي للفرد والمجتمع والنظام، تتحول للخفاءِ مثيرةً الشبهات و الخلافات المعهودة التي تنتهي بحملاتٍ تسكيتيةٍ للرأي و تنتهي هي الأخرى بعد زمن ربما بخلع الحاكم و استبداله بنظامٍ يدعو للحريات ثم لا يلبث النظام الجديد أن يعيد الكرة. نرى هذا حتى في العائلة حين يقف الأبُ راعياً و مانحاً و حاسماً أمر العائلة، والأم تابعة علي مضض أو موافقة والأطفالُ توابع بلا قوة كذلك، ثم قد تقوى شوكةُ النقد عند نقطةٍ ما فيبدأ الخلاف بين الأب و الأم الذي يمر بمراحل من الأخذ و الرد و ربما النهرُ و العنف و قد ينتهي بالاستسلام للأمر الواقع حمايةً للسمعة و العائلة أو للإنفصال و ما يحتويهِ من تعقيداتٍ.
لقد عشنا و نعيش هذا النموذج في بلداننا العربية حيثُ كثيرٌ من الشعوب لا تتسامح واختلاف الرأي. و يعيشه الشعبُ الغربي الذي يتمتع بالحريات علي اختلافها وعلى الجوانب الشخصية الحياتية اليومية أكثر منها من العامة و الخارجية. أوجه الإختلاف متعددة جداً بين النوعين من الشعوب و لو ذكرتها لاتُهِمْتُ بمحاباة الغرب المستبد و العدو لأوطاننا المستهدفة. و الحقيقة أنني أنظر بواقعيةٍ للنموذجين، فلا أقبلهما علي علاتهما، وعلاتهما كثيرة و لا تُعد. فلا يمكن لعاقل أن يتغاضى عن أفعال الغرب، كما لا يجوز التغاضي عن أفعال العرب، و لكن إثارة الأخيرة بالنقد تثير ردوداً اتهامية، فكأن المطلوب هو تكرار الإشادة مهما كانت الأخطاء عظيمة و جلد الغرب لأنه السبب.
إن الإشادةَ العمياء خطأٌ وقع فيه العديد من الشعوب، كما حصل معنا، مندفعين لوسيلةِ خلاصٍ أو نصرٍ أو افتخارٍ اشتقنا له. كثيرُنا يحب جمال عبد الناصر، و هو محق فالرجل كان له عطاءاتٌ و شخصيةٌ جاذبة و لهذا فالكثير لا يحتمل انتقاد فترة حكمه، و كثيرٌ يمقتهُ و يتهمهُ بتدهور بلده و العرب. و لصدام حسين عشقٌ كبيرٌ ما زالَ و للكثير كان و يبقى بطلاً لا يجب الانتقاص من صورته، بل أن صورته في الأردن تُزَيِّنُ السيارات في تزايدٍ مثير للعجب، و كثيرُ جداً لا يذكره إلا باللعن. و كذا حافظ الأسد و ياسر عرفات و معمر القذافي و زين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح و غيرهم ممن فارق الحياة، و من تبعهم من قياديين أحياء اليوم لا يجرؤ أحدٌ انتقاد قرارتهم دون المخاطرة بالدخول في شجاراتٍ و مشاكل. القارئ لتاريخنا يعلمُ أننا نقدسُ الشخصيات القيادية التي تحيطها هالات العظمة والتنزيه لاعتباراتٍ مختلفة. و قد يكون. لكن علينا أن نعترفَ أنهم بشرٌ غير معصومين من الخطأ و أنهم وقعوا بأخطاء كارثية. و يتكرر الخطأ من قيادات هذا الزمان في كل مستويات العمل العام و حتى الخاص الذين لا يقبلون النقد ولا يتحملون الرأي المغاير. و إن قبلوه فعلى مضضٍ وبسقوفٍ محددة. هذا هو الواقع. و لا أختلفُ مع من يقول أن حرية الغرب النقدية تصل للبذاءة فهي كذلك لكنها حريةٌ سمحت بالكشف عن الفساد و إقصاء رؤساء. و لا أختلفُ مع من يقول أن أوطاننا مستهدفة و العدو يترصدها و لا يترك قائداً وطنياً من شَرِّهِ. و أنه حسبما يُقال علينا أن نتورع عن إنتقاد الذات و مساءلةِ أفعالها و أن علينا أن ننتقد العدو و نشيدَ بالوطن. و أنا أختلِفُ معهم في هذا. فالوطنية لا يجب أن تعني عمىً عن الأخطاء و إشادةً دون تعقل. بل حقيقٌ علي المواطنة أن تكون صريحةً و مِعطاءةً ضِمْنَ نظامِ حرياتٍ منفتحٍ لا يكتم و لا يكمم الرأي و ضمن هرميةٍ من المسؤوليات و العواقب تصِفُ و تُعطي المسؤول و المواطن حدود الوصول للمعلومات و نشرها و تحليلها.
ليس علي المواطن مثلاً عبءَ معرفة صفقات السلاح والخطط العسكرية أو بناءاتٍ عظيمة لكن من حقهِ أن يسألَ و يفهمَ عندما تفوح روائح فساد الصفقات و تُخسَرُ الحروب و يموت مئات الآلاف. و قس علي ذلك ما هو أقل مقداراً من السلاح و الحروب و المدائن. التراجع المعيب في التنمية والخدمات مثل انقطاع الماء و الكهرباء و تردي الخدمات الصحية و ازدياد الخوف من المستقبل و ارتفاع وتيرة الهجرة و العزوم عليها و لو انتحاراً في قوارب الهجرة و تفضيلها بين الشباب على البقاء. و لنذكر التفاوت الطبقي و التباعد المفروض قسراً بين من يملك ومن لا يملك الموارد المالية. إن تقليبَ صفحات الوطن العربي يكشِفُ عن كوارث حَلَّت بنا لها صِلاتٌ بالفساد و الصفقات و القرارات الإنفعالية كلها قادت لويلاتٍ لم يتعافى منها المواطن لليوم. نعلمُ أن العدو يحيكُ المؤامرات و يصيد بالشباك و يحاصر و يعاقب و يضرب. لكن العدو لوحده ليس السبب الرئيسي. و إن كنا متحفظين، فلنقل أن الأخطاء مناصفة بين استبدادٍ داخليٍّ و عدوانٍ خارجي. فإن كان العدوان أمراً لا يمكن إلا أن يكون فلماذا لا نُصْلِحَ النصف الذي نسيطر عليه؟
الرد علي السؤال هذا يصطدم بالإجابة المراوغة إياها. أننا نفعلُ ما نستطيع و العدو لا يتراجع عن تثبيطِ أفعالنا و عرقلتها. لا أدري ما دور العدو في الحالة العربية الناهبة الفاسدة التي تمرمغُ جباه الأوطان. من يقول للعربي أن ينهب و يفسد و يصنع المخدرات؟ الإجابةَ الجاهزة للإسكات هي أننا شرفاء ذوي نخوةٍ لا نسمحُ بالضيم. و إن انتقدتَ هذا التعميم، بأننا لسنا كذلك تماماً، فأنت مع العدو ضمناً في تقويض البلاد ودحر العباد. و إن لم تُصَنَّفَ مع العدو فأنتَ لا بد تنوي الإساءة للوطن أو المقاومة أو الرموز. الأجدر أن تصمتَ و تترك الأمور لِأًولي الأمور. هذا هو المنطق السائد و من يشذ عنه يلقَ لوماً و ما هو أشد. و قد نعتقدُ أن ديموقراطيتنا المتمثلة بمجالس النواب و الأمة و الشعب والشورى والقضاء، والسلطة الرابعة ستقوم بمهمة فصل وضبط السلطات و الرقابة و المحاسبة لكن هذا الاعتقادُ يصطدمُ بالتوغل المخيف للسلطة التنفيذية، باستبدادها و تسلطها، علي ممثلي الشعب و علي القضاء و و شراء الأقلام و محطات الإعلام. طبعاً هناك هوامش مسموحة لكي يتولد الانطباع باستقلالية هذه عن السلطة التنفيذية لكن المسار أو المنحنى الطويل لا يلبث أن ينحني لتشكيل الدائرة، فنقطة البداية هي النهاية و هي رغبة ولي الأمر بالمعنى الأشمل لسياسة الدولة. هكذا نحنُ.
و أيضاً هكذا هي السياسات الخارجية للغرب حين تحتفظ السلطة التنفيذية بالخيوط و لكنها علي عكسنا تسمح بهوامش نقاش متسعةٍ مع الجهات النيابية و الإعلامية يتشكل عبرها رأيٌ وازنٌ قد يؤخذُ به و قد لا يؤخذ لكن اتخاذهُ كان قد مَرَّ حتماً بسلسلةٍ من التمحيص. و لكن السلطة التنفيذية إن قررت فعندها، أي عندهم، من وسائل الإقناع و الاستثناء للرافضين ما يبرر سياساتها و يهزم حججهم. أسوق مثلاً نواباً بريطانيين عارضوا الحرب علي العراق، فلم يستمع لهم سميعٌ من الحكومة. و استفرد بمجلس النواب و الأكاديميين ممن عارض سياسات أمريكا في العراق و المنطقة العربية، و لم يستمع لهم تنفيذيٌّ واحد. لكن أحداً لم يمنعهم من قول رأيهم و إبداء الحجج الدامغة التي يتداولها العرب تدليلاً علي صِحةِ صراعنا ضد الصهيونية والاستعمار. الفرق بيننا و بينهم هو فعلاً مساحات الحرية و فرصةَ عرض الفكر المعارض دون خوفٍ من ترهيبٍ و تقييدٍ. هل لنا أن نتخيل مثلاً مظاهراتٍ في العراق ضد الحرب مع إيران أيام تلك الحرب؟ أو ضد غزو الكويت؟ أو كاتباً بوسيلةِ إعلامٍ عراقيةً لا يؤيد الحكومة؟ و خذ من ذلك مثلاً تُسْقِطَهُ علي ما تلى تلك الأيام و لليوم في كل الدول العربية. الإستثناء كان ثورات الربيع العربي لكنها لم تكن إلا انفجاراً نتيجةَ الاستبداد و رفض النقد. و إن يفشل الرأي المعارض في الغرب في تطويع السياسات الخارجية فإنه لا يفشل في السياسات الداخلية و في الرقابة النيابية والقضائية وفي فرض التغييرات ومحاسبة المعتدين علي القانون. بينما نقف نحن قاصرين أن نواجه أو يكون لنا رأي في تحويل مسار شارع عدا عن سياسات عُظمى.
قبل أيام كتبتُ مقالةً عن التهديد الأجوف كنايةً عن إطلاق التصريحات دون أفعال و قد نالت المقالة نصيباً من اللوم حين لم يقرأ اللائمون فيها سوى أنها انتقدت من يؤمنون بارتفاع مكانتهم عن النقد. لكن فاتهم أن النقد ضروريٌّ ضرورةَ المسائل الحيوية التي نعيشها. إن الراغب في فهم من و ما يسيطر علي حياته يجب أن يتحلى بملكةِ النقد و بملكة قبوله. و لا يعني النقد كراهيةً أو محبةً لطرف و لكنه يطلب الواقعية و يتوخى من المتابع أن يفهم. و إن لم، فلا ملامة. فهكذا للأسف أصبحنا.