أوكرانيا أضحية العولمة والامركة
حسين بني هاني
16-09-2022 11:54 PM
كان رجال السياسة في واشنطن، قبل الأزمة الاقتصادية العالمية عام ١٩٢٩، هم الذين يبسطون الأرض لرجال المال والاعمال، يضعون التشريعات الناظمة للنمو الاقتصادي والمحفزة للاستثمار، وكان هذا هو الحال منذ الثورة الصناعية. بعد تلك الأزمة أدرك أصحاب راس المال أن رأس الهرم يجب ان يقلب، وان يصبح رأس المال ومن والآه من السياسيين، المحرك لعجلة الاقتصاد وقيادة دفة السياسة والحكم وليس العكس.
منذ ذلك التاريخ، أصبحت السياسة في واشنطن ربيبة الاقتصاد وملهمته ووسيلته الجشعة لتحقيق مآربه المنتجة للسلطة والمعززة للتجارة والربح، حتى لو كانت سبلها عسكرية، وجعلت مبادئ مونرو الشهيرة، الداعية للعزلة الأميركية والانكفاء ،بحجة الاكتفاء الذاتي نهبًا تذره الرياح، كونه يؤدي الى التباطؤ في عجلة النمو التي انطلقت بعد الأزمة ،والتي عظّمت قيمتي الإنتاج والاستهلاك ،باعتبارهما قطبي الرحى في النظرية الرأسمالية.
دارت الحرب العالمية الثانية، البعيدة عن البر الأمريكي، ودارت معها عجلة الإنتاج والصناعة الأميركية بحدودها القصوى ،وبكل أشكالها المدنية والعسكرية ،لتلبي حاجة القارة العجوز التي ولغ بها النازي قتلًا وتدميرًا ،واتاحت فرصة عظيمة لنمو الصناعة الأميركية ،حتى وضعت الحرب أوزارها ،وتولى مارشال وضع خطة التعافي لأوروبا ، حينها بدأت بذور العولمة الامريكية، مقصورة في ذلك الوقت على القارة الأوروبية، للحيلولة دون وصول المد الشيوعي الى بلدان ورثتها واشنطن حديثا عن الاستعمار القديم يشقيه البريطاني والفرنسي.
تلك كانت البداية، حين فاضت خزائن تجار الحروب، من الشركات الأمريكية العملاقة بشقيها المدني والعسكري، وراج بينها سوق الأسهم والسندات، مرة أخرى، كان ذلك إيذانا لبدء أيديولوجية جديدة، خفية ومتغطرسة، دشنت ما اصطلح على تسميته بالنظام الليبرالي، ربطت فيه واشنطن بين تحرير الاقتصاد وبناء الديمقراطية، بعد التجربة النارية المريرة.
اذكر هذا وانا أتقدم نحو إرهاصات الحرب في أوكرانيًا ،وقبلها تقلبات أسواق الأسهم والسندات عام ٢٠٠٨ والرهونات التي أطاحت بدرّة سوق العقارات وبنوكه الكبيرة (جولدن ساكس وليمان برذرز )، كي احدد فواصل تلك المرحلة الاقتصادية الامريكية بين نموذجين لرأس المال ،أحدهما صناعي والآخر مالي طغى وتجبر عبر البنك الدولي وصندوقه ،وباع الوهم معتمدا على المضاربات المالية ،منظومة رأسمالية، أرست عبرها نموذجين للاقتصاد ،الأول أوروبي واصل إنتاج السلع معتمدا على الفحم والنفط والغاز ،والأخر نموذج الكازينو الأميركي الذي راهن ولا زال يراهن على المقامرة في شارع وولستريت في نيويورك، معتبرا البورصة (بيع الوهم) بمثابة ميزان حرارة الاقتصاد ،الدال على ضعفه وقوته ،والليبرالية كأنجيل للدبلوماسية الأميركية بشقيها المدني والعسكري.
هكذا نظرت واشنطن للعالم بعد انهيار جدار برلين ،وتجلت عولمتها او بمعنى أدق الامركة، بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال تعامل صندوق النقد والبنك الدولي، ضمن منظور أيديولوجي، وتحديدًا في بند الخصخصة والسوق الحرة، حين تحرشت باقتصاديات شرق آسيا الصاعدة في تسعينيات القرن الماضي، مدشّنة بذلك اول أعراض العولمة بصيغتها الأميركية المالية الحافلة بالإملاءات الصعبة ،حينما فرض الصندوق الليبرالية قبل وضع أي إطار قانوني لمواجهة الاختلالات التي تفرضها الإصلاحات ،والتي ألحقت الأذى بالطبقات الاجتماعية الفقيرة في كل مكان.
ومما زاد الطين بلة، فقاقيع الأسهم ومشتقاتها وصراخ ملاكها في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، التي لا علاقة لها بأصولها ولا لقيمتها الحقيقة، مما أحال العالم المالي برمته عام ٢٠٠٨ الى كازينو تعمه الفوضى، بسبب قيم السوق الخالية من أي مكان للفضيلة او الإيثار، مما ألحق الأذى بدول العالم الثالث، التي أرادت واشنطن من خلال البنك الدولي وصندوق النقد، أن تجعل نظامها الرأسمالي أسلوب حياة ومنظومة عمل لها، رغم الفوارق الجسيمة بينها وبين تلك الدول اجتماعيًا واقتصاديا وسياسيا وحتى فكريًا.
واشنطن المبتهجة بسقوط جدار برلين ،زخرفت نظامها العالمي الجديد حينها ،بالديموقراطية والحرية وحقوق الانسان والاسواق الحرة (هتكتها كلها باحتلال العراق). لم يجرؤ احد على معارضتها، فشرّعت موسكو الجريحة أبوابها للديموقراطية وتكيفت مع معطياتها الاقتصادية ،وفتحت أسواقها للشركات الاميركية العابرة للقارات ،التي عاثت بها فسادًا وتدميرا.
استكانت روسيًا للوضع الجديد ،وصبرت كي تلتقط أنفاسها حتى أدرك زعيمها بوتين ان عاصمته أصبحت على مرمى نيران الحلف الأطلسي ،بعد ان التهمت واشنطن وحلفها معظم دول الاتحاد السوفياتي السابق ، وبات جنوده على تخومها، حينها استيقظ الدب الروسي لتحصين بيته الداخلي ،باحتلال القرم واحتواء جيرانه باستثناء أوكرانيا، هنا نصب الغرب بقيادة واشنطن شراكه لاحتواء الدب الروسي ذو المخالب النووية للإجهاز عليه والتحضير للتعامل مع التنين الصيني.
حصل هذا في حرب استنزاف يمولها الغرب لترويض الدب القطبي وعين بكين تراقب الأحداث عن كثب ،وهي التي تعرف ان قوةً اقتصادها هو الهدف بعد ترويض موسكو، خاصة وانها حافظت خلال ثلاثة عقود على نسبة نمو مقلقة لواشنطن تراوحت بين ٦-١٢بالمئه سنويا ،الأمر الذي دفع واشنطن للتحرش بها سياسيا، بعد ان غاصت اقدام موسكو في اوحال أوكرانيا، عبر زيارة رئيس برلمانها إلى تايوان.
لقد ظن من تابع تصريحات كبار ساسة الصين اثناء تلك الزيارة ، ان بكين سوف تغزو تايبه بعيد إقلاع طائرة بيلوسي، وهو ما كانت تتمناه واشنطن ومعها الغرب ،ولكن جدار الصين المتين ،الذي عقد العزم على صد سيل العولمة والأمركة الجارفة ، ادرك مبكرًا ان مقارعة هذه الأيديولوجية هو بالمزيد من الصبر المشفوع بالإنتاج الغزير ،الذي ينافس إنتاج الغرب برمته ، وغزو الأسواق بدل غزو الأوطان ،دون ان يكلفها ذلك الغزو دولارا واحدا أو قطرة دم واحدة.
تلك هي الصين التي صبرت على جفاء وتحرش الاتحاد السوفياتي السابق لها سنوات طويلة ،والتي ستواصل إقلاق مضاجع واشنطن ،حتى يأتي ذلك اليوم، الذي ستحتل فيه بكين وفق المتشائمين مكانة الولايات المتحدة السياسية والعسكرية، بعد ان تفوقت عليها اقتصاديا ،وهو الأمر الذي يحذر منه جميع المؤمنين بصراع الحضارات عبر التاريخ وأفول بعضها.