مواجهة تحديات نظام الاقتصاد العالمي الجديد صورة استشرافية
د . خالد الوزني
15-09-2022 04:59 PM
يواجه نظام الاقتصاد العالمي اليوم ثلاثة تحديات أساسية تتلخَّص في التزوُّد بالطاقة، وبُطء تعافي سلاسل التوريد من تبعات الجائحة، بسبب تعطُّل أو التعطيل المتعمَّد للعديد من مفاصل قطاع الخدمات اللوجستي، خاصة النقل، والتطورات على ساحة الحرب الروسية الأوكرانية.
وقد تولد عن تلك التحديات ثلاث ظواهر اقتصادية اجتماعية متداخلة مترابطة، تمثَّلت في انفلات في الضغوط التضخمية، وتوسُّع حلقة البطالة السافرة، وتراجع القوة الشرائية للدخول في مستويات الدخل المتوسط فما دون. بيد أنَّ ظاهرة الضغوط التضخمية، التي خلقتها سياسات التسيير الكمّي الزائد الذي تمَّ اتباعه للتخفيف من أثر الجائحة، ترافقت مع تعطُّل قوى الإنتاج، ما ولَّد حالة ركود في العديد من القطاعات، وخاصة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي تعدُّ المشغِّل الأكبر للعمالة حول العالم، الأمر الذي أفضى إلى ظهور الركود التضخمي المعروف، أي تضخماً في الأسعار، وتراجعاً في مستويات العمل، وبات العالم أمام ثلاثية مُركّبة ومربكة تمثَّلت في أسعار مرتفعة، ودخول منكمشة، ووظائف مضمحلة.
وما زاد الطين بلة هو لجوء صانعي السياسات إلى أساسيات نظرية بحتة للتعامل مع التضخم، عبر اللجوء إلى آلية رفع الفائدة لضبط الفائض في الأحجام النقدية، أي تكميش مستوى الطلب الكلي في الاقتصاد العالمي. في حين أنه بالرغم من كون مسببات التضخم بدأت بعوامل نقدية بحتة، أي عوامل فوائض نقدية ناتجة عن ضخ أموال لتعويض المتضررين من الجائحة، فإنَّ ما يؤجِّج التضخم اليوم هو زيادة تكاليف الإنتاج التي أشعلتها ارتفاع تكاليف النقل، نتيجة الجائحة، وتفاقم أسعار الطاقة، بفعل الحرب الروسية الأوكرانية.
وقد أشارت الدراسات أنه خلال الجائحة لجأ نحو 95% من دول العالم إلى خيار التحويلات النقدية المباشرة للفئات المستهدفة، وقد غطّى ذلك نحو 44% من الناس في الدول المتقدمة، و25% في الدول متوسطة الدخل، و8% من دول الدخل المنخفض، وفي المجمل فإنَّ نحو 1.4 مليار شخص حول العالم تلقوا دعماً نقدياً.
والمحصلة كانت إطلاق أول مُسببات الضغوط التضخمية التي نشهدها، بيد أنَّ الجائحة أفرزت أيضاً حالة من التباطؤ في الإنتاج، وفي حركة النقل العالمي، أدت إلى ظهور ارتفاع في كلف النقل العالمي، وانكماش في حجم الإنتاج، الذي تعطَّل أصلاً بسبب الجائحة وإغلاقاتها المفاجئة، ما أظهر تضخم الكلفة المرافق للفوائض النقدية التي أخذت تدور في الاقتصاد لتنتقل من يد المستفيدين إلى خزائن المنتجين، ثمَّ اكتملت الصورة قتامة بفعل الحرب الروسية الأوروبية الأمريكية عبر أوكرانيا، التي عطَّلت توريد المواد الأساسية للعديد من الدول، وهدَّدت موارد الطاقة للمجموعة الأوروبية، بل وهدَّدت كلف ومستويات الإنتاج في معظم الدول الأوروبية، فبين انكماش الإنتاج، وارتفاع كلفه، وتفاقم حالة البطالة، بات العالم يواجه أسوأ حالات الدورات الاقتصادية منذ آخر كساد عالمي، والذي ظهر منذ نحو قرن من الزمان، واستمر حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، ولم يخرج منه العالم إلا بانتهائها وتغير النظام العالمي الجديد بأقطابه الاقتصادية والسياسية. الضغوط التضخمية، وتعطل الطاقات، وتراجع القوة الشرائية شكلت وقوداً حيوياً لمزيد من البطالة، من جهة، ومزيد من جيوب الفقر من جهة ثانية.
والسؤال المطروح اليوم، ما التوجهات التي يجب على صنّاع القرار اتباعها للخروج الآمن، السريع، والرشيق من تبعات هذه التحديات التي يشهدها النظام العالمي اليوم. الإجابة عن هذا السؤال قضية ليست سهلة، ولا تحتمل وصفة موحدة، جاهزة، أو روشتة من روشتات المؤسسات الدولية. المحصلة الاستشرافية، من وجهة نظري، تتمثَّل في ثلاثة مُخرَجات أساسية.
المُخرَج الأول أنَّ النظام الاقتصادي العالمي الجديد سيتبلور خلال السنوات الباقية من هذا العقد، أي إنَّ العالم ما بعد 2030 لن يكون كما هو قبلها، والمتوقع أن يكون الاقتصاد الصيني، والروسي، والتركي، والهندي محاور أساسية في التقسيم العالمي الجديد، وفي السيطرة على مقومات الاقتصادات التجارية والصناعية والبيئية.
المُخرَج الثاني أنَّ نظام التسويات المالية العالمي سيتغير، ولن يكون للتسويات النقدية المعروفة عبر غرفة المقاصة العالمية في نيويورك، أي عبر الدولار، نفس الحجم القائم اليوم، بل من المتوقع أن ينقسم ذلك بشكل ملموس بين التسويات الإلكترونية، من جهة، وذلك عبر آلية تسويات باستخدام العملات الإلكترونية المدعومة من نظام عالمي جديد تقوده الدول الأكثر تأثيراً في التجارة الدولية، والأكثر امتلاكاً للسلع الأساسية، وهو نظام تسويات قد يكون مماثلاً لنظام حقوق السحب الخاصة الذي ابتدعه صندوق النقد الدولي، قبيل انسلاخ العالم عن قاعدة الذهب، وتعويم العملات العالمية حينها بدءاً بالدولار الأمريكي، ومن جهة ثانية قد ينشأ نظام تسويات مالية عالمية مباشرة بين دول الفائض التجاري ودول العجز، عبر تعاملات غير نقدية، ليست بعملة محددة، وبعيداً عن الدولار، أو ما يمكن تسميته تسويات المقايضة العالمية وفق حسابات نوعية وليست نقدية.
أما النتيجة الثالثة، فهي أنَّ العالم سيتحوَّل إلى فضاء جديد من التعاملات الإلكترونية المعتمدة على البيانات الكبرى، وعلى التواصل عبر عالم الميتافيرس، أي إنَّ الاقتصاد العالمي سيتحكم به تبادلات عالمية إلكترونية، افتراضية في معظمها. أي أن خدمات التعليم، والصحة، وتأهيل الافراد، أي بناء القدرات، والتعاملات التجارية بين الأفراد وبين التجار، ستتم جميعها عبر قنوات افتراضية عالمية تتجاوز الحدود المعروفة اليوم، وعلى دول العالم أن تبدأ بتأهيل جيل جديد من صنّاع القرار والسياسيين، ورجال الأمن، وأنظمة أمنية، وقوانين ذات تأثير عالمي تكفل الحقوق والواجبات، بحيث يكون القائمون عليها طبقة الشباب القادر والمؤهل افتراضياً، والمُمكَّن من اختراق علم الميتافيرس والإبحار فيه، لتتمكَّن الدول من فرض قوانينها وسيطرتها ونظامها على مَن يعيشون على أرضها، أو مَن يتعاملون مع شعبها، أو مع أصولها المنقولة وغير المنقولة.
العالم الجديد عالم بعيد كل البعد عمّا نعرفه اليوم، وهو عالم لا تحكمه الحدود، ولا تربطه الوثائق الاجتماعية، أو القوانين التقليدية، وهو عالمٌ قادم عاجلاً وليس آجلاً.
khwazani@gmail.com
* أستاذ مشارك سياسات عامة كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية