يسجّل التاريخ الإنكليزي أنّ ثماني ملكات حكمن، لكنّ ثلاثاً منهن تركن آثاراً وبصمات واضحة، وكنَّ أطول الملوك حكماً وعمراً، رجالاً كانوا أو نساءً. هُنّ الملكة إليزابيث الأولى (Elizabeth I)، التي عاشت عمراً امتد إلى نحو 70 سنة، وحكمت إنكلترا وإيرلندا بين 1558 و1603، أو 44 عاماً. وقد سُميت الملكة العذراء لأنّها لم تتزوج، وإن ارتبطت بعلاقات يسميها بعض المؤرخين "رومانسية" مع عدد من رجالاتها والقادة العسكريين.
وقد اختلف المؤرّخون حول شخصيتها، فمنهم من اعتقد أنّها امرأة قاسية القلب، لأنّها أعدمت شقيقتها ماري ملكة اسكتلندا الكاثوليكية، وكذلك أعدمت قريبين منها لاعتقادهم أنّهم يستطيعون تحدّيها، نظراً إلى أنّها لم تكن صارمة معهم، فاختلط عليهم الأمر، معتقدين أن لينها كان ضعفاً. وقد شهدت أيامها بدايات التوسّع الاستعماري البريطاني، وحملات الاستكشاف الجغرافية، خصوصاً في القارة الأميركية على يد أناس أمثال السير والتر راليه وغيره. ولكن الأهم كان حسمها الحروب المتتالية مع ملوك إسبانيا، والنزاع بين الكاثوليكية والأنغليكان (البروتستانت) في هولندا وأماكن أخرى.
وأخيراً، حسمت الملكة اليزابيث الأولى الأمور في مايو/أيار عام 1588 بفوز الأسطول الإنكليزي وسفنه الصغيرة على أسطول الملك الإسباني فيليب الثاني (الأرمادا) الذي تكون من أكثر من 130 سفينة حربية ضخمة. وهكذا نجا الإنكليز من غزو الفلاندرز الذين كانوا ينوون، بمساندة الإسبان، احتلال الجزر البريطانية وتحويلها من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، كما كانت حتى حكم الملك هنري الثامن والد الملكة إليزابيث الأولى.
وبسبب هيمنة الإنكليز البحرية، نشأت المدرسة التجارية (Mercantilism)، التي حدّدت النهج الاقتصادي الذي سارت عليه الجزر البريطانية في الهيمنة على تجارة السلع، وفرض قوانين البحار (navigation acts)، التي أتت بعد موت الملكة اليزابيث الأولى بحوالى 48 عاماً.
وقد سمّيت فترة الملكة إليزابيث الأولى باسمها، وتُقرَّر لها في التاريخ الإنكليزي فصول خاصة. وكان لما جرى من تطوّرات، إبّان حكم هذه الفتاة التي رأت، وكانت لم تتجاوز الثالثة من عمرها، أمها، آن بولين، يعدمها والدها، والتي لم تكن تريد الحكم، الأمر الأبلغ في أن تصبح الجزر البريطانية، في القرون اللاحقة، إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
الملكة الثانية هي فيكتوريا التي عاشت في القرن التاسع عشر وتوفيت عام 1901 عن عمر يناهز 81 عاماً، بعد حكم دام من سنّ الثامنة عشرة حتى وفاتها، وبلغت مدته 63 عاماً. لم تتمتع بالقوة والسطوة نفسيهما مثلما تمتعت به آخر ملكات أسرة تيودور، إليزابيث الأولى، فقد تطورت الحياة البرلمانية ليصبح لمجلسي النواب واللوردات سلطات واسعة على حساب السلطة المطلقة للملك.
ومع هذا، كانت هذه الملكة الشابة تتمتع بذكاء حاد، وقد تزوجت ابن عمها الألماني، وأنجبت منه ثمانية أولاد تزوجوا من العائلات المالكة في أوروبا، حتى إنّ الملكة فكتوريا لقبت "جدّة أوروبا".
وقد كان ملك ألمانيا ولهلم الثاني حفيدها قد حارب بلاد جدّته فيكتوريا في الحرب العالمية الأولى. لكنّ عصر فيكتوريا شهد سنوات نضج الإمبراطورية، وغناها الفاحش، وقد أطلق على الملكة فيكتوريا لقب إمبراطورة الهند عام 1876.
وكانت الشمس فعلاً لا تغيب عن الإمبراطورية التي حكمتها، علماً أنّ إحدى أهم المستعمرات، وهي الولايات المتحدة قد استقلت عن التاج البريطاني إبّان حكم جدّها الملك جورج الثالث. لكن بريطانيا لم تخسر مستوطناتها في كندا، ولا في البحر الكاريبي، ولا في جزر الهند الشرقية، وحافظت على علاقات تجارية متميزة مع الولايات المتحدة. وفي عهدها ألغيت الرسوم والضرائب الجمركية على صادرات بريطانيا إلى الولايات المتحدة ومستورداتها منها. وترسّخت نظرية الحرية الاقتصادية التي بدأها آدم سميث، وتعزّزت على يد اقتصاديين بارزين، أمثال ريكاردو وجون ستيوارت ميل وغيرهما.
وشهد عقد فكتوريا ثورة اجتماعية، وبرزت جمعيات المثقفين المدافعين عن الفقراء والمهمّشين في المدن مثل Fabian Society التي تأسّست عام 1884، وسُجلت مؤسّسة مجتمع مدني في لندن. وقد كان كبار الكتاب والمثقفين مؤسّسين وأعضاء فيها. وقد برز أفضل الكتّاب والمؤلفين في العصر الفيكتوري، أمثال ديكنز، وهاردي، وقصص شرلوك هولمز، والشعراء المبدعين من العصر الرومانسي.
أما الملكة إليزابيث الثانية، التي توفيت يوم الثامن من شهر أيلول/ سبتمبر الحالي، ولم تزل مراسم دفنها قائمة حتى التاسع عشر من هذا الشهر، فهي أطول ملوك إنكلترا حكماً وعمراً، وقد توفيت عن عمر يناهز 96 عاماً، وبعد حكم بلغ 70 عاماً وسبعة أشهر وأياماً.
تولت مقاليد الحكم من والدها الملك جورج السادس الذي كان موضوع الفيلم الحائز الأوسكار "خطاب الملك" (The King’s Speech)، والذي لم يرد قبول الحكم بدل أخيه إدوارد السابع الذي تنازل عن العرش بسبب إصراره على الزواج بسيدة أميركية مطلقة مرّتين.
كانت الشمس قد بدأت تغيب عن الإمبراطورية التي خسرت معظم مستعمراتها الدسمة بعد الحرب العالمية الثانية في آسيا وأفريقيا وأستراليا. وتحولت إلى "كومنولث" يشكل رابطة من دولٍ تدين بالولاء للملكة، وتحتفل معها في المناسبات، من دون أن تضحّي باستقلالية القرار فيها.
وبفضل تطور الحياة البرلمانية، انحسر دور الملكة إليزابيث على الرسميات، فهي تكلف رئيس الوزراء بعدما يختاره الشعب كرئيس للحزب الفائز في الانتخابات، وهي تقبل استقالته. لكنّ الملكة بقيت رمزاً يتمسّك به أهل الجزر البريطانية، وكثيرون في القارّتين، الأميركية وأوقيانوسيا (أستراليا ونيوزيلندا)، لأنّ كثيرين من سكّانها ينحدرون من إنكلترا واسكتلندا وإيرلندا. وما زال بريق المَلَكية يستهويهم.
ومع هذا، تبقى الملكة الراحلة إليزابيث الثانية رمزاً لزمان غابر، تسعى فيه المملكة المتحدة لأن تكون مستقلة في موقعها، ومتصالحةً مع الكبار الآخرين في العالم.
"العربي الجديد"