أكثر من لقاء جمعني بالشاعر الكبير الراحل محمد علي شمس الدين، في البصرة وبغداد، وعمّان، وإربد، والشارقة، ودبي، ومسقط، وكان أوّلها عام 1984 في مهرجان المربد في البصرة، وفي كلّ لقاء اعتاد أن يترك عطر محبّة لا يفارق الذاكرة، فعندما قرأنا الشاعر الذي ينتمي لجيل السبعينيات الشعري في لبنان، وشعراء الجنوب اللبناني، أحسسنا أنه يغوص عميقا حتى يلامس الوجع الإنساني المشترك مخلّفا دهشة:
"ناوليني حذائي وقلبي
ناوليني السفر
ليس لي وطن أو صديق
والهواء الذي يتسرب تحت الثياب
ينحني خائفا
أن يلامس قلبي"
تتسّلح قصيدة (شمس الدين) بلغة أنيقة، وعمق فلسفي، وغالبا ما تكون نصوصه مكتظة برموز مستلهمة من التاريخ العربي، والإسلامي، اضف إلى ذلك، فالشاعر الراحل الحائز على جائزة سلطان العويس 2011 م ليس شاعر ترافة لفظية وصور فنية، وتراكيب بلاغية، بل شاعر موقف، وانتماء، تشغله قضيّة اختلال ميزان الجمال والعدالة في عالمنا، واستفحال الظلم ووحشية الإنسان، ويرى أننا نجد الحلّ لكلّ الصراعات حين نغوص عميقا في موروثنا الروحي، والديني، والتاريخي، ففي الحوار الذي أجريناه لبرنامج" كتاب مفتوح" وشاركني بإدارته الصديق الشاعر وسام العاني قال "مشكلتي في الشعر أحياناً إنني أجد ميزان العدل في العالم مكسوراً، وغالبًا ما كان مكسورًا، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) كان هو من يعدّل ميزان العدل في التاريخ منذ أن وجد حتى الآن، كما أن العالم الآن بحاجة ماسّة إلى الرحمة، وأن النبي محمداً (صلى الله عليه وسلّم) هو هذه الرحمة"، وقبل بدء البرنامج الحواري، الذي كان يبثّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، طلب أن يبدأ الجلسة الحوارية بقراءة قصيدة عنوانها (شمس محمد)، وأصرّ على ذلك، فكان له ما أراد، فألقى النص، وتدفقت المعاني الصافية، المجلّلة بالأنوار المحمدية :
"لمحمد
لغة الأرض
وميزان الحقيقة
ومحمد رفة العشب على جفن الحديقة
وله الباب الذي يفضي إلى السر
ومفتاح السماء
وله وردة عين الفقراء
ومحمد دائماً يبدأ من أول سطر في الخليقة
..ورمى بين يديه
كرة الشمس الكبيره
آه يا شمس محمد
لا تغيبي عن فضاء الروح يا شمس محمد"
والمعروف عن الشاعر الراحل المولود عام 1942م مواقفه في قضايا وطنية وقومية، فقد انخرط في السبعينيات بالحركة الوطنية أيام الحرب الأهلية اللبنانية، وكان تلك الحركة داعمة للقضية الفلسطينية، من خلال الشعر، والعمل الثقافي والوطني، وبقيت مواقفه صلبة حتى وفاته، لم يتزحزح عن مبادئه، ولم يتخلّ عنها، تحت أيّ ظرف من الظروف، وكان يتمتع بحسّ إنساني رفيع، وتواضع، كنا نادرا ما نراه لدى شعرائنا الكبار، ففي تلك الاستضافة تحدّث عن زيارته للبصرة، وجيكور قرية الشاعر بدر شاكر السيّاب، وأشار أنه فوجيء بأن (بويب) لم يكن سوى نهر صغير، وليس (نهرا هادرا) كما وصفه السياب في قصيدة (النهر والموت)، وكان نجل السياب غيلان يتابع الجلسة، فكتب سلسلة تغريدات استنكر على الشاعر قوله أن النهر لم يكن سوى "خيط ناشف من الماء فيه حصى وذباب تحت نخلات أبي الخصيب"، و انتقد قوله أن "شباك وفيقة"، ليس سوى "ثقب في جدار مهدّم"!! وقال غيلان" انطلت على شاعرنا، كما أظن، أكاذيب الصبيان الذين تجمّعوا حوله في جيكور و دلّوه على الشباك ذاك، الذي انمحى من الوجود هو وتلك الدار ولم يبق منها حتى الجدار المهدّم!"، ناعتا قوله بـ"القسوة في الوصف" ّوحين أبلغت الشاعر طالبا منه توضيحا، لم يغضب، ولم يتردد، وفي الجزء الثاني من الحوار، وجّه تحية لغيلان الذي أحبه، كما قال ،لأنه ابن بدر شاكر السياب ونحن أبناء السياب" وأشار "إن الواقع الذي ذكرته يعني أن السياب صنع من النهر والمكان أسطورة، وهنا تكمن عظمة السياب فبويب لم يعد نهرا يجري في (أبي الخصيب) بل أصبح بوابة الموت والحياة لذلك قلت: الأنهار يبتكرها الشعراء، والمدن يصنعها الخيال" .
وفي الأحداث المزلزلة، كان يهرع إلى قصيدته التي ظلّ مخلصا لها حتى آخر أيّامه، وكان يجد الشاعر محمود درويش في (الجدارية)، أعلى منه في بقية دواوينه، وحين سألته ذات يوم عن ذلك أجاب "لأنّ درويش في (الجداريّة) زار الموت، وعاد منه، وكتب عنه" لكن الموت حين زار محمد علي شمس الدين اصطحبه معه، ولم يترك له فرصة ليكتب عنه، لكنّ عزاءنا أنه ترك لنا إرثا شعريا سيظل حاضرا بيننا.