يا لدفء أحضانها من خدرٍ ماتِع
عامر طهبوب
15-09-2022 12:39 AM
سمعت صديقاً لي من الإعلاميين، وهو ينقل بالأمس تقريراً تلفزيونياً من أمام موقع انهيار العمارة في اللويبدة، يقول: هذه العمارة قديمة، بنيت منذ أكثر من خمسين عاماً. وقبل سنوات قريبة، رفضت قريبة لي، شراء شقة قرب الدوار الرابع لأن عمرها 12 عاماً، ويبدو أن مفاهيمنا للقديم، مختلفة عن مفاهيم غيرنا من شعوب الأرض، تجولت في مدن «ماستريخت»، و»أوتريخت» في هولندا، وشاهدت بنايات نُقش تاريخ إنشائها على واجهاتها الحجرية التي تؤكد أن عمرها مائتا عام وأكثر، ونزلت في فندق في «ستراسبورغ» الفرنسية، أُقيم في بناية عمرها ثلاثمائة عام.
انهيار بناية بكاملها، كما تنهار حجارة «الليغو»، يدعو إلى القلق من القديم، ويدعو للتساؤل الذي ربما تجيب عليه تحقيقات النيابة والجهات المختصة في أمانة عمان وغيرها، ومهما كان الأمر، فإن عبراً يجب أن تُستفاد من حدث يقع لأول مرة، فقدنا فيه أرواحاً من أهلنا، وربما تكون أول العبر المفترضة، الرقابة الشديدة على مواصفات الأمن والسلامة في البناء، والتأكد من الالتزام الصارم بالمعايير والشروطات، ومن ناحية لا تقل أهمية، بل تزيد، إجراء مسح ميداني، وفحص معمق للبنايات القديمة، وبخاصة في وسط البلد، واللويبدة، وغيرها، والعمل على هدم الخطيرة منها إذا لم تكن مباني تراثية، على أن وسط البلد، يجب أن يُحظر الهدم فيه، وأن يلزم المالك بأعمال الصيانة وفق شروط محددة، والعمل من قبل الدولة، على ترميم المباني والبيوت التي تحمل صفة تراثية، أولها اللويبدة، وجبل عمان، ووسط البلد.
المعمار في هذه المناطق له روح، الحجارة تتكلم في هذه الأنحاء، تعبر عن حضارة نامية، وعن معان سامية، وتاريخ مجيد، نحنُّ إليه ونشتهيه، روح عمان تحفظها حجارتها، وأدراجها، ليس فقط رجالاتها، ونساؤها، واللويبدة درة جبال عمان، تختزنها وتختزلها، وهي معقل السياسة، والفن، والأدب، والتسامح، والمحبة، والوسطية، والجمال، والبساطة، والأناقة، والثقافة، والعراقة، وصالونات الحلاقة، والدهشة، والياسمين، وهداة البال، وصلاح الحال، واللين، والتين، والرياحين، وقرع الفناجين. الله الله على جمال اللويبدة، وما يمثله الجبل من تنوع وانسجام ووئام.
وأعود إلى القديم والجديد، وأضرب مثلاً على حقيقة أذهلتني عام 2006 وأنا أتوسط ابنتيّ سيراً على الأقدام في شارع «كروازيت»، المطل على البحر في مدينة «كان» الفرنسية، توقفت وسألت ابنتي فرح، ولم تعرف مثلي الجواب. رأيت مبنى من عدة طوابق، استندت جدرانه إلى أعمدة ضخمة منبسطة من الحديد «السكب»، استند إليها المبنى من واجهاته الأربعة، ولم أستطع حينها، فهم ما يحدث، إلى أن التقيت بصديق يكبرني سناً ومقاماً، هو السعودي الشيخ عبد المقصود خوجا، عندما دعانا للعشاء في بيته في «كان»، وهو أحد البيوت الأثرية، ابتسم وقال: هذا هو الفرق بيينا وبينهم، وفسر لي ما يحدث.
وما يحدث هو فعل إبداعي من الطراز الأول، فهذه المباني لا يسمح بهدمها، ولا يسمح للزمن أن يدفعها للانهيار، يتم ربط الجدران الخارجية بالحديد «السكب»، بطريقة هندسية محكمة، ثم يتم هدم البيت من الداخل، وصب جدران إسمنتية استنادية جديدة من الداخل، تلتحم مع الواجهات الخارجية، يعاد تصنيع خشب النوافذ مرة أخرى على نفس الطراز، كما يتم تنظيف الحجارة الخارجية بلطف وحرص شديدين، والمنتج في النهاية، مبنى حديث من الداخل، عصري من الطراز الأول، لكنه تاريخي من طراز عتيق من الخارج، وهكذا ببساطة، تتولى بلدية «كان» رعاية هذه المباني، وقد استفادت ابنتي من تلك المشاهدة وقد أصبحت الآن مهندسة معمارية مبدعة.
وأسوق مثلاً آخر، فقد حدث أن اشترى وزير النفط السعودي الأسبق محمد عبده يماني، بيتاً تراثياً في ضواحي لندن، وفي يوم من الأيام، طلب إلى عامل لديه، أن يعلق لوحة على حائط الصالة في مكان محدد، وأعطاه مطرقة ومسماراً، سأل الشاب العامل، وهو بريطاني الجنسية، محمد عبده يماني: هل لديك إذن حكومي بفعل ذلك؟ استغرب يماني واستفسر، قال الشاب: هذا مبنى تراثي، لا يحق لك أن تفعل في جدرانه أي فعل من هذا النوع إلا بإذن، قال: ولكن البيت أصبح بيتي، قال: نعم، ولكن لا يجوز لك التصرف في أي شيء دون إذن، ولن أفعل ما طلبته، وإذا رأيتك تفعل ذلك بنفسك، سأبلغ عنك الجهات المسؤولة.
هل أقول لكم كم مبنى تراثي في وسط البلد، مهمل ومهجور، وربما يتعرض للهدم، لبناء ما هو جديد، أو ينهار بفعل الزمن، وأقول بصراحة: هذا جزء من الترهل العام في الأداء الحكومي، جزء من كل، فأمانة عمان، أولى بها أن تضطلع بمهام الترميم للأبنية التاريخية التراثية، وإعادة الحياة لها، سواء في وسط البلد، أو في اللويبدة، أو في جبل عمان، أولى لها ولنا، من ملاحقة أصحاب البسطات، وقد آن والله الأوان، لأمانة عمان أن تنهض، ولكل مؤسسة حكومية لها علاقة بهذا الشأن، فهذه عمان التي قال فيها صباح هذا اليوم، صديقي الدكتور الصادق الفقيه، وقد عاش فيها سنين طويلة، بعث يقول لي أنه وصل إليها من اسطنبول، حيث يعمل أستاذاً في إحدى جامعاتها، بعث يقول في عمّان: يا لدفء أحضانها، من خدر ماتع !
(الدستور)