لا أجيد فن الكلام لا بل–أحيانا- أتألم عندما أتكلم، خيفة أن آذي من يستمع لي، أو أن تصيبه إحدى كلماتي في مقتل من جسده -لا قدر الله–ولكن يسجل لي–كما يقولون–بانني مستمع جيد الى حد الانصات، وفق هذا المبدأ كان الحوار مع أحد بلدياتي الذي يعاني من الاكتئاب منذ فترة ليست بالقصيرة وأصبح لديه وافر من المعلومات عن الاكتئاب والقلق والصحة النفسية والاضطرابات النفسية ومشاكل المركز الوطني للصحة النفسية في الفحيص جعلته يكرر عبارة -اسال مجرب ولا تسأل طبيب. استهل بلدياتي حديثه غاضبا على من يعتقد أنّ الصحة النفسية رفاهية، ومسألة جانبية والأولى الاهتمام بالأمراض الجسدية، ولكي أخفف من حدة غضبه وكمدخل للحوار معه أكدت لبلدياتي أنّ الحقيقة التي كشفتها العديد من الدراسات هي أنّ المرض النفسي واحد من الأمراض الخطيرة والقاتلة اذا تم اهماله على الصعيد الحكومي، العشائري، العائلي والفردي.

أضاف بلدياتي يقول بعد أن أشعل سيجارته ونفث جغمته الاولى في وجهي أن الحياة تغيرت والقرية تمدنت والتكنولوجيا غزت معظم مفاصل حياتنا، أصبحت الضغوط النفسية جزءا من حياتنا اليومية مما يحتم علينا التعرف على مسبباتها بهدف التخفيف من حدتها، أعجبني كلام بلدياتي وبينت له ان هذه الضغوط النفسية قد تنتج من مشكلات صحية كالمرض العضوي والقلق حول العلاج الطبي والتأثيرات الجانبية للأدوية، وأحيانا من هموم شخصية كالوحدة والخوف من مواجهة المسؤوليات الاجتماعية والأخلاقية وحتى من ضجيج حركة المرور وازدحامات السير وغلاء الاسعار وهموم العمل مثل عدم الرضا الوظيفي والعلاقات السلبية في العمل كل هذه بالمناسبة قد تدفع الى الانتحار، هنا كان لزاما علي أن اتدخل لتوضيح امر في غاية الاهمية هو أن غياب بروتوكول صحي للتعامل مع محاولي الانتحار ليس استثناءً بالنظر إلى غياب التشريعات فيما يتعلق بالصحة النفسية، فالأردن لا يملك أي تشريع خاص بالصحة النفسية- على حد علمي- إنما يحتكم في ذلك إلى قانون الصحة العامة، وهو مأخذ اوردته منظمة الصحة العالمية على الأردن في تقاريرها الدورية. ومما يزعج بلدياتي أن الأطباء النفسيين- وعددهم قليل- يتوزعون على المحافظات بموجب نظام مناوبات، أي قد يتغير الطبيب النفسي المبعوث للمحافظة بعد عدة أشهر بحسب نظام المناوبات، الأمر الذي يشكّل تساؤلًا لدى بلدياتي حول نوعية الخدمة المقدمة، والتي تتطلب وجود رابط ثقة بين المريض والطبيب المعالج.

بلدياتي اردف قائلا–أزيدك من الشعر بيت -العلاج النفسي في القطاع الخاص مكلف جدا قد تصل كلفة الجلسة الواحدة الى خمسين دينارا، و لا يخضع لبوليصات شركات التأمين، وزيارة الطبيب النفسي ايضا مكلفة قد تصل الى أربعين دينارا او اكثر، واما الأدوية فحدث بلا حرج، فهي يا عزيزي معظمها غير متوفر في مراكز وزارة الصحة وكثير منها غير مشمول بالتأمين الصحي، حاولت تبرير ذلك لبلدياتي بأن دخل الطبيب النفسي هو فقط من الجلسات التي يجريها في العيادة، ولا يوجد له مصدر آخر كالاختصاصت الطبية الاخرى، مستهجنًا عدم شمول بوليصات شركات التأمين للطب النفسي، قاطعني بلدياتي » تخيل يا حكيم ان التجميل والطب النفسي غير مشمولين بالتأمين، زيهم زي بعض، هذا يعطي فكرة عن النظرة للطب النفسي بأنها ليست من الأساسيات.

بلدياتي و بما تراكم لديه من خبرة طويلة مع الاكتئاب، أعلمني أن شركات التأمين لا تحجب التغطية المالية عن العلاج النفسي فحسب، بل إنها لا تدفع بدل علاج لمن يصل المستشفى من الأشخاص المؤمّنين محاولًا الانتحار، كون إيذاء النفس غير مغطى، هنا كان لا بد من التوضيح لبلدياتي أن العديد من محاولات الإيذاء المتعمد للذات لا تكون بنية الانتحار، لكن ذلك لا يعني أن ننفي الإحصائية القائلة بأن نسبة عالية من محاولي الانتحار يقدمون على الانتحار فعليًا لاحقًا،وفوق ذلك، فإن بين 50-75% ممن يحاولون الانتحار يكونون قد تحدثوا عن نواياهم أو أفكارهم الانتحارية قبل محاولاتهم.

تشريعيًا، يمنح قانون الصحة العامة الحق بإدخال المصابين بأمراض نفسية للمستشفيات بالإجبار في حال كان يشكّل خطرًا على نفسه أو على الآخرين، في حين تشير تقارير المركز الوطني لحقوق الإنسان الى غياب الوعي المجتمعي حول قضايا الصحة النفسية. ولكي اهدئ من روع بلدياتي المكتئب قلت يا ابن عم هون عليك، انت لست وحدك تعاني من الاضطرابات النفسية فانت نموذج لقطاع تصل نسبته الى نحو 20 بالمئة – اي واحد من كل خمسة اردنيين يعاني من اضطرابات نفسية، ولكن غالبيتهم تحجم عن التقدم للعلاج بسبب الثقافة المجتمعية السائدة، الثقافة التي لا ترحم، تصنف الذين يعانون من امراض نفسية باعتبارهم اشخاصا غير مرغوب بهم للمصاهرة او العمل او حتى الصداقة، بل ان اي عائلة قد يُعرف عن فرد فيها معاناته من مرض نفسي، تصبح منبوذة باكملها، فلا يتقدم احد للزواج من بناتها ولا تقبل العائلات الاخرى تزويج ابنائها. يا ابن بلدي، حتى في حواراتنا نبتعد عن الأحاديث التي قد تؤدي الى تطرقنا لحالات نفسية مررنا بها وكأنها وصمة عار تسجل على جبين الشخص، بالرغم من أن المرض النفسي أمر ديناميكي، جميعنا في وقت من الأوقات قد تكون كفاءتنا النفسية أقل.

عزيزي بلدياتي، قبل أن اتركك، هل من خدمة يمكن أن أقدمها لك، اجاب بعد ان تنهد–نعم دكتور–تستطيع ان تنقل لوزير الصحة أن ادوية الامراض النفسية تباع في الصيدليات باسعار مرتفعة جدا وليست في متناول كل المرضى وغير متوفرة في صيدليات مستشفيات الوزارة، والا -اقول لك – خلينا مكتئبين أحسن – تعودنا عليه.

(الراي)