في منطقة حدودية بين دول رفضت الطبيعةُ رسمها، إلا أن الإنسان أبى إلا اصطناعها، ليصطنع عالمًا يلبي فيه رغباته الشيطانية، طفلٌ من بعمره من الأطفال قد أتقنوا القراءة والكتابة والحساب، ولكنه يقف أمام خيمته المهترئة كملابسه الخلقة والتي لا تناسبه سنًا ونوعًا وحجمًا، ولك أن تتخيل فرحة قلبه الصغير المرتجف خارجًا من بين أضلعه، في يوم شديد القرّ، حين وجدها ملقاة على الأرض، قد ألقاها أحدهم على قارعة الطريق لأنها رثت وبليت ما بليت من خطوب السنون، كوجه ذات الطفل الذي شحب وامتُقِع بالمرض والألم، فهو خالي المأوى والمأكل والمشرب والملبس وحتى الوالدين إلا من جده الذي عُقد لسانه وقت الهروب من قصف صواريخ القوى السوداء، والتي التهمت ذكرياته وكيانه مع زوجته، وابنه وعقيلته وطفلتهما الرضيعة، فلم يبق إلا ذلك الصغير مع جسد جده وروحه الهاربة الباحثة عن العزاء في غياهب ظلمات النفس البشرية.
وفي الخيمة المظلمة إلا من زاوية تلقي الشمس أشعتها عليها من شرخ في بابها، أحدثته رياح الخريف الشرقية، وضع مرتبة كادت أن تصير أقرب إلى الحصير الخشن، تراه يجلس في حضن جده، يمسك يداه تارة ويتحسس وجهه تارة أخرى، ليستنطق تلك الكلمات الصامتة في تجاعيد رسمتها الأيام، فأتقنت فنّها، ويخلل أصابعه في لحيته البيضاء الممردة برماد الخطوب إلا من شعيرات فلتنَ من قبضتها، وتتلاقى العيون بنظراتها ليرسمنَ ما كان من قبلُ يسمى حقوقًا في لوحات من الأماني. لوحات طفولية تشوبهنَ آثار من أمراض شيطانية تأصلت في نفوس من البشر، فزينت لهم أعمالهم حتى صار للطمع، وللحقد، وللكذب، وللغدر، وللخيانة، وللقتل بغير الحق مسميات ظاهرها وباطنها في الضِّدين من الجَون.
وفي سقف الخيمة الذي مزقته عواصف الشتاء وثلوجه، فجعلته لا يصلح لشيء غير السقوط على كل من يقطن تحته، تكتمل لوحات الأماني، فينظران مشدوهان لهن معًا، وتتلاقى نظراتهما مرة أخرى، وقلبيهما يتخاطبان: أحقًا سنعيش في بيت دافئ، ننعم فيه بطعام مرئ، وماء فرات سائغ، وثوب قشيب يا جدي؟ أحقًا سيكون لي عائلة تفرح لفرحي وتحزن لحزني يا جدي؟ أحقًا سأتعلم ما أحب كما الأطفال بعمري يا جدي؟ أحقًا سأشفى من مرضي عندما يتوفر لي الدواء يا جدي؟ أحقًا سأعيش في وطني آمنًا يا جدي؟ فترد نظرات جده قائلة: أحقًا سأدفن بسلام في وطني يا بني؟ أحقًا سيشفى بنو البشر من أمراضهم الشيطانية يا بني؟ أحقًا سيعرف البشر عدوهم الحقيقي وتلك القوى التي تسانده؟ أحقًا سيتحد البشر ضد تلك القوى السوداء يا بني؟ أحقًا؟ أحقًا؟ أحقًا؟ فتتعالى هاتان الروحان إلى عالمهما مرة أخرى لتريانِ من تفتقدانِ، هروبًا من واقع يتفجر قسوة وعنفًا، وتبقى لوحات الأماني معلقة في سقف الخيمة. هل ستخر تلك الأماني إذا خرّ السقف؟