عندما وصلت إلى جزيرة سقطرى في أوائل أيار من هذا العام، سعدت بالوحدة، والعزلة عن العالم، تجربة فريدة من نوعها، أن تكون معك، وأن تغوص في ذاتك، وأن تبحث عنك في صمتك، حتى وإن ارتفع صوت موج البحر، كنت أنا، يبدو أنني وجدتني هناك، ويبدو أنني وجدت في العزلة ما لم أجده في الصخب.
لم أشعر على الفور في تلك القيمة، يبدو أنها لا تأتي كحادث سير، ولا كولادة متعسرة، بل تتسلل إلى الذات دون افتعال أو صنعة، لم أكن أعرف أن العزلة تشكل حاجة من احتياجاتي، أو قل إنني لم أكن أعرف قيمتها، ولم أعرف معها قيمة الصمت، والتوقف عن الاتصالات الهاتفية، والبعد عن وسائل الاتصال، والنأي بالنفس عن الخصام، وعن جلسات المحاكم المصرية التي تنشر قصصاً تدفعك إلى كره الحياة ومعاداتها، لا «زمامير» في الشارع، ولا صراخ، ولا عويل، كل ما في الجزيرة يدفعك إلى التأمل، ويبعدك عن معاني الصدق والكذب، والخصام، والفطام، ولا يوجد في الجزيرة «قناة جزيرة» أو غيرها.
أول جلسة «يوغا» طبيعية عشتها، يوم قضيت ليلة التخييم الأولى في جبال «ديكسِم» في قلب الجزيرة، لم يكن من الممكن أن يصل أحد في هذا العالم إلي، ولم يكن من الممكن أن أصل نفسي بعالمِ سوى عالمي هذا الذي تحف بي في قلبه طيور «الشلهي»، و»سوعيده»، في ظلال شجر «دم الأخوين»، ونسمة هواء باردة تعبر من فوق رأسي وأنا اشرب كوباً من الشاي، كأنه أول كوب شاي أشربه في حياتي، وفي تلك الليلة أخذت أشعر ببدايات متعة العزلة، وصفاء الذهن، والتصالح مع الذات.
وبعد أيام، وجدت نفسي مستلقياً على شاطئ البحر في مدينة قلنسية، المدينة الثانية بعد حديبو، في ليلة تخييم ثانية، تعتني بي امرأة بدوية هي «سعدية»، أتناول العشاء التي أعدته بنفسها، وأشرب الشاي، ثم أستلقي في تلك الخاصرة التي هي امتداد للبحر، وليس البحر، يأتي صوت الموج كأنه صوت موسيقى هادئة مخصصة للاسترخاء، وتساعد على النوم، غفوت ثم صحوت على ماعز تقطع الطريق إلى البحر من فوق جسدي، أفقت، لكني بقيت مستلقياً على ظهري، لأشاهد ولأول مرة منذ طفولتي المبكرة، هذا الحجم من النجوم في سماء الله، تعبر الشهب من أمام عيني، تضيء وتنطفئ، والناس نيام، أخذت أعد النجوم، واحداً تلو الآخر، وجدت فيها كرات أحلام وضياء، وددت لو أستطيع أن أطير، وألاحقها وأمسكها بيدي.
لم أشعر أن الصبح يتنفس إلا على ظهر تلك الجزيرة المعزولة، وأنا جزء من انعزالها، لكنني في قلبها، أنا في قلب العزلة، والعزلة أنا، احتفيت بها حتى الصباح وأنا أسمع ديك سعدية، وعبث الماعز، تبعه أذان الفجر، وانطلقنا في قارب صغير إلى شاطئ «شوعب»، حيث تتعزز الوحدة، كنت الوحيد في «شوعب»، وكان البحر، وزبد البحر.
ولكن العزلة الأكبر لم تأت بعد، جاءت في صحراء «نوجِد» بعد أيام، وبعد أن عانقت شاطئ «حِلمِهي» في جنوب الجزيرة، وتوجهنا للنوم في قلب الصحراء، لا صوت إلا صوت الجراد، ولا زائر إلا الجراد، قضيت الليل مستلقياً على ظهري أحتفي في عزلتي، وفي خيمتي، وفي خيبتي، فهذه الحياة الصاخبة المستعجلة، لا تعطينا إلا الصخب، واللحاق بالأوهام، تسرقنا من وقتنا، تلك الأوهام التي يحلو لنا تسميتها بالآمال، الحياة قصيرة، وحتى نطيل في عمرها، علينا أن نسير الهوينا، ونحتفي من وقت لآخر بفضيلة العزلة، أن تكون معك، وأن تدخل في قلبك، وتسال نفسك عما تريد، فقد تجد الإجابة في العزلة، وتجد ما فقدته في النيران، في الرماد عندما ينزع الفجر الثوب عن نفسه.
الدستور