ما أنت؟ إلى أي رتبة من الوجود تنتمي؟ وأي نوع من الكائنات تمثل؟ هل أنت إله؟ هل أنت رسول؟ هل أنت ملاك أو قديس؟ أجاب: "أنا المستيقظ".
المستنير أو المستيقظ هو المعنى الحرفي لكلمة بودا، فالجذر السنسكريتي للكلمة هو "بوده"، وهو اللقب الذي حمله سيدهارتا غوتاما ساكياس عندما نفض عن نفسه غبار الوهم وأزال عن عينيه غفلة الانبهار بالحياة.
تقول الأسطورة أن نيران الجحيم أُطفِئت لحظة ولادة بودا، وأن الأنوار عمّت العالم، وأن الوحيد الذي لم يفرح بهذه الولادة كان "مارا" الشيطان.
هناك، في نيبال، قرب الحدود الشمالية للهند الحالية، ولد سيدهارتا غوتاما ساكياسي. كان أبوه ملكا، أو يمكن القول بأنه كان سيدا إقطاعيا كبيرا، استعان بالعرّافين لينبؤه عما يخبئه المستقبل لوليده، فأجمع هؤلاء بأنه سيكون رجلا استثنائيا وسيوحد الهند ويغدو ملكا على العالم، أو قد يكون مخلّصا للعالمين. أراد الملك لإبنه أن يحكم العالم، فلم يدّخر جهدا لإغراقه في مباهج الدنيا ومغرياتها، فألبسه الحرير، وأحاطه بخدم يظلونه بشمسية بيضاء، وأصدر أوامره بألا يقتحم أي منظر مؤلم بلاطه الملكي كي لا يفسد على ابنه لحظة من ملذات الحياة، ووضع تحت تصرفه ثلاثة قصور وأربعين ألف راقصة، وزوّجه من الأميرة "ياسودهارا" وهو في السادسة عشرة من عمره، فأنجبت له ابنا سمّياه "راهولا".
حسب الروايات، أرادت الآلهة لغوتاما أن يكون مخلّصا، فقامت بتدبير إعجازي أفسد على الملك خطته الدنيوية، ففي لحظة غفلة من الحراس تكشفت لغوتاما حقيقة الشيخوخة، وحقيقة الألم، وحقيقة الفقر، بل وحقيقة الموت أيضا، فأدرك أن السعادة لا يمكن أن تتحقق لنفس محصورة في عالم الجسد، فأين هي الحياة التي ليس فيها هرم ولا موت؟
ألحّ على غوتاما نداء البحث عن الحقيقة، وعندما بلغ التاسعة والعشرين من عمره، ودّع زوجته وابنه النائم وبدأ سفره الطويل بعيدا عن قصوره وعيشه المترف، متجردا من كل مغريات الدنيا، حليق الرأس، رث الملابس، وحيدا محاطا بصمت الغابة الثقيل.
بدأ غوتاما بتعلم الحكمة الهندوسية، وبذل جهدا كبيرا لترويض نفسه وتهذيبها، ثم توصل لمبدأ الاعتدال في كل شيء، وأخيرا وصل لمرحلة الفكر الدقيق والتركيز التأملي الصوفي. لم يكف "مارا" الشيطان عن محاولاته لإغواء غوتاما وفتنته، وحاول أن يبين له صعوبة المهمة التي حمّلها لنفسه، فكيف يمكن له أن يبرهن إشراق الروح لعوامٍ تسيطر عليهم الرغبات والشهوات؟ ولم لا يلوذ وحده في السعادة الأبدية للنيرفانا؟ لكن غوتاما الذي وجد طريق الخلاص أصر على أن ينير درب الآخرين ويأخذ بأيديهم ليتذوقوا حلاوة النيرفانا أيضا، واستمر في أداء هذه المهمة الشاقة لمدة خمسة وأربعين عاما، حتى وافته المنية، أو كما أراد، فُتِحت له آخر الأبواب نحو "النيرفانا"، وهو في الثمانين من عمره.
جمع غوتاما المستنير أو بودا بين الهدوء والعقلانية وعدم الانفعال من جهة، وبين شدة الحنان والعطف والمودة من جهة أخرى، كان يطلب من تلاميذه أن يخبروه عن أي خطأ يلحظوه في تصرفاته أو أقواله. لم يكن بودا بسيطا، بل كان عظيما، ولم يغرِ الناس بالسعادة السماوية، بل جذبهم نحوه بقوة الحقيقة.
لقد أخذت البوذية حيويتها الأساسية من الهندوسية، ولكنها كانت بمثابة ثورة ورد فعل ضد مفاسدها وانحرافاتها، فقد دعا بودا إلى دين خال من السلطة وذلك عن طريق جعل العلم متاحا ومعلوما لكل الناس وليس حكرا على طبقة معينة، وألقى على كل فرد مهمة القيام ببحثه الديني بنفسه، فنهاهم عن الاستماع للروايات، أو تقبل التراث والسنن السابقة لمجرد وجودها في الكتب أو سماعها من أشخاص معينين. كما نادى بدين خال من الطقوس والشعائر المفصّلة التافهة والصلوات المتكررة للآلهة واعتبرها إجراءات معقدة تكبّل وتقيّد روح الإنسان. نادى بودا بدين مجرد من التأملات والتخمينات العقلية المحضة ورفض مناقشة المسائل الميتافيزيقية أو الماورائية فجاءت أفكاره بعيدة عن الخوارق والمعجزات، قريبة من المنهج التجريبي البراغماتي الذي يبحث في العلاقة بين العلة والمعلول، فاهتم بحل المشكلات الواقعية التي يعاني منها الإنسان.
يعتبر منهج بودا منهجا ديمقراطيا شكل ثورة ضد نظام الطبقات الذي كان أحد أهم سمات الهندوسية، فلقد حطم بودا جدارالطبقات فاتحا طريقه لكل الأفراد، متمردا بشكل أو بآخر على فكرة الكارما التي سيطرت على أرواح الناس وجعلتهم يدورون في حلقة مفرغة من التناسخ ضمن أطر محددة لا يمكن تجاوزها، فأكد على الإرادة الحرة للإنسان خلال انتقاله في سلسة حيواته المتتابعة.
ترتكز البوذية على الحقائق السامية لبودا والتي ترى أن الحياة ما هي إلا معاناة ومكابدة، وهذه ليست نظرة تشاؤمية لشخص وهب نفسه للبحث عن الخلاص، إذ رأى بودا أن السرور الذي قد نشعر به، ما هو إلا مشاعر سطحية تترك داخلنا فراغا كبيرا لا يمكن ملأه إلا بالوصول إلى الحقيقة. كما رأى أن الرغبة أو الأنا هي سبب انزياح الحياة عن مسارها الصحيح، فتعظيم ذواتنا يسهم في حبس أرواحنا ويضيّق عليها الخناق فيزداد الألم.
لم تكن الحقيقة في نظر بودا قيمة أخلاقية، بل قيمة وجودية لأن الكذب يحمي جدران الأنا، فتبتعد الروح أكثر عن الحياة. كما اعتبر أن الجهل هو الإثم وليست الخطيئة. أما النيرفانا فهي الانطفاء الذي يصيب الحدود المتناهية للنفس لتتحد الروح مع اللامحدود في حالة غير قابلة للوصف أو الإدراك، فالقدر النهائي للروح الإنسانية هو تلاشي الشعور الشخصي للنفس المحدودة كما تتلاشى القطرة في البحر أو كما يرى آخرون أن القطرة تنفتح لتتلقى البحر نفسه!
كباقي الأديان انقسمت البوذية، فلم يمض قرن واحد على وفاة بودا، إلا وكانت بذور الانشقاق قد بذرت، وانقسمت البوذية حول المسائل التي يختلف الناس بشأنها عادة، فظهرت المذاهب والفرق، وكان من أهمها فرقتان ادعتا بأنهما تهتمان بنقل الإنسان عبر بحر الحياة إلى شواطيء الاستنارة وهما فرقة "تيرافادا" والتي تعني "طريق الأسلاف"، وقدمت نفسها على اعتبار أنها تمثل البوذية الأصلية، وفرقة "ماهيانا" والتي تعني العبارة الكبيرة والتي ادعى أتباعها بأنهم هم الذين يمثلون الخط الحقيقي لخلافة واستمرارية البوذية الأصلية. وهكذا عاد الدين الذي بدأ بثورة ضد الطقوس والماورائيات والقوى الخارقة للطبيعة لينتهي بالرجوع إليها ثانية، بل إنه حول مؤسسه نفسه، والذي أعلن عن إنسانيته وبوضوح لا لبس فيه، حوله إلى إله!
من كتاب "أديان العالم" بتصرف